انفد من ساحة الصدر إلى مشاهدة القلب تجد ملكاً عظيماً، جالس على سرير مملكته، يأمر، وينهى، ويولى، ويعزل، وقد حف به الأمراء والوزراء والجند، كلهم في خدمته، إن استقام استقاموا، يكن زاغ زاغوا، وإن صح صرحوا، وإن فسد فسدوا. فعليه المعول، وهو محل نظر الرب تعالى: ومحل معرفته، ومحبته، وخشيته، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والرضى به وعنه، والعبودية عليه أولا، وعلى رعايته وجنده تبعاً.
فأشرف ما في الإنسان قلبه، فهو العالم بالله، الساعي إليه، المحبّ له، وهو محل الإيمان والعرفان، وهو المخاطب المبعوث إليه الرسل، المخصوص بأشرف العطايا من الإيمان والعقل. وإنما الجوارح أتباع للقلب يستخدمها استخدام الملوك للعبيد، والراعي للرعية، والذي يسرى إلى الجوارح من الطاعات والمعاصي إنما هي أثاره، فإن أظلم أظلمت الجوارح، إن استنار استنارت، ومع هذا فهو بين أصبعين من أصابع الرحمن عزّ وجل.
فسبحان مقلب القلوب ومودعها ما يشاء من أسرار الغيوب، الذي يحول بين المرء وقلبه، ويعلم ما ينطوي عليه من طاعته ودينه، مصرف القلوب كيف أراد وحيث أراد. أوحى إلى قلوب الأولياء أن أقبلي إليّ فبادرت، وقامت بين يدي رب العالمين، وكره عز وجل انبعاث آخرين فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين.
كانت أكثر يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا ومقلب القلوب"، وكان من دعائه:"اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك". قال بعض السلف:(القلب أشد تقلبا من القِدْر إذا استجمعت غليانها) . وقال آخر:(القلب أشد تقلبا من الريشة بأرض فلاة يوم ريح عاصف) . ويطلق القلب على معنيين: أحدهما: أمر حسيّ، وهو العضو اللحمي الصنوبري الشكل المودع يهب الجانب الأيسر من الصدر، وفي باطنه تجويف، وفي التجويف دم أسود، وهو منبع الروح.