والثاني: أمر معنوي: وهو لطيفة ربانية رحمانية روحانية لها بهذا العضو تعلق واختصاص. وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان.
وإذا تأملت حال القلب مع الملك والشيطان، رأيت أعجب العجائب، فهذا يلمّ به مرة، وهذا يلم به مرة، فإذا ألمّ به الملك، حدثت من لمّته الانفساح، والانشراح، والنور، والرحمة، والإخلاص، والإنابة، ومحبة الله، وإيثار محبته على ما سواه، وقصر الأمل، والتجافي عن دار البلاء والامتحان والغرور، فلو دامت له تلك الحالة لكان في أهنأ عيش وألذه وأطيبه، ولكن تأتيه لمة الشيطان، فتحدث له من الضيق، والظلمة، والهم، والغم، والخوف، والسخط على المقدور، والشك في الحق، والحرص على الدنيا وعاجلها، والغفلة عن الله، ما هو من أعظم عذاب القلب.
ثم للناس في هذه المحنة مراتب لا يحصيها إلا الله، فمنهم من تكون لَمَّة الملك أغلب من لمَّة الشيطان وأقوى، فإذا ألمَّ به الشيطان وجد من الألم، والضيق. والحصر، وسوء الحال بحسب ما عنده من حياة القلب، فيبادر إلى طرد تلك اللمَّة ولا يدعها تستحكم فيصعب تداركها، فهو دائما في حرب بين اللَّمتين، يُدَالُ له مرةً، ويدالُ عليه مرة أخرى، والعاقبة للتقوى.
ومنهم من تكون لمَّة الشيطان أغلب عليه وأقوى، فلا تزال تغلب لمَّة الملك حتى تستحكم ويصير الحكم لها، فيموت القلب، ولا يحس ما ناله الشيطان به، مع أنه في غاية العذاب، والضيق، والحصر، ولكن سكر الشهوة والغفلة حجب عنه الإحساس بذلك الألم. فإن كشف أمكنه تداركه بالدواء وحسمه، وإن عاد الغطاء عاد الأمر كما كان، حتى ينكشف عنه وقت المفارقة للدنيا، فتظهر حينئذ تلك الآلام، والهموم، والغموم، والأحزان، وهي لم تتجدد له، وإنما كانت كامنة تواريها الشواغل، فلما زالت الشواغل ظهر ما كان كامنًا وتجدد له أضعافه.