كان كل شيء ذلك اليوم رائعا وجميلا في نظري, فالشمس مشرقة دافئة حلوة تحن الأرض إلى أشعتها تنفض بها عن شعرها قطرات الندى التي صبها عليها الليل قبل أن يرحل وكانت الأشجار تهتز طرية فرحة على أنغام الطيور والعصافير, وقد اكتست من خضرة الثوب ما راق وتوشى بدنانير الذهب ورق الخريف, وكان النسيم يهب ناعما رقيقا لينا وكأنه أم تمر بيدها على خد وليدها تداعبه وتخشى عليه, وكانت دمشق لا تزال تستقبل الوافدين إليها للالتحاق بجامعتها فتفتح لهم يديها وتضمهم إلى صدرها ضمة حنان ورأفة فتمسح عنهم غبار السفر وتضفي عليهم من رونقها ما يأخذ بالعقول ويسرح الألباب.
وكانت السيارة تنطلق بنا منحدرة من تلال الزبداني تعجب من حال شباب ما عرفوا في حياتهم سوى الضحك والمزاح، وما حملوا من هموم الحياة شيئاً وما أدركوا معنى المسئولية, وأصوات هؤلاء الشباب تعلو وتنخفض مع كل ضحكة لطيفة ونكتة حتى وصلت بنا إلى مشارف دمشق ثم مالت نحو الجنوب لتقف أمام مستشفى المجتهد، ثم تقذف ما في صدرها فتتعالى أصداء الضحكات وبقايا الابتسامات أمام باب المستشفى ثم تخفت لتنتقل إلى الردهة الخارجية حيث كان يقف صف طويل من الشباب ينتظرون نتائج فحوص صدورهم الشعاعية.
وقفت في الرتل الطويل، وكنت لا أزال أضحك وأفرح وأعلق على كلام أصدقائي وأنا انتظر دوري حتى صرت أمام الكوة الصغيرة ودفعت بالورقة المرقومة إلى الموظف وأنا مطمئن النفس إلى أنه سيمهرها بخاتمه كما يمهر غيرها وأنطلق مع الأصحاب عائدين ولكن الموظف قلب أوراقا أمامه ثم قال: انتظر قليلاً.