لم يذق طعم النوم قط. إنه يتقلب على فراشه الضيق الخشن منذ أوى إليه عند منصف الليل.. وقد حاول بكل طاقته إخلاص فكره من ذلك التشويش القلق الذي يراوده، ولكن عبثاً.. لقد كانت محولاته وسيلة أخرى لإطلاق مقادير غير متوقعة من ذلك التشويش، فهو لا يتغلب على بعضها حتى يحتويه بعضها الآخر.. وراح يحدق عبر الظلام لعله يلمح شيئاً يصرفه عن أوهامه التي لم يستطع لها تحديداً ولا توضيحاً.. فيرتد بصره حسيراً، إذْ لا يرى سوى تلك الخيام المنتشرة في بطن هذه الصحراء الممتدة حول (معان) .. وقد سكن كل شيء فيها إلا أقدام الحراس تتحرك هنا وهناك، فتطلق ما يشبه الحديث المهموس..
وفجأة هب من فراشه، وكأنما هز قلبه خاطر.. ومدّ يديه يتلمس قربة الماء على عمود الخيمة، ثم أخذ يصب منها على يديه ووجهه، حتى إذا أسبغ وضوءه، عمد إلى غطائه فبسطه ثم أقبل يصلي فوقه.. وما إن أتم ركعتيه حتى أتبعهما بأُخْرَيَيْنِ.. ولم يشأ أن يزعج الراقدين من زملائه في الخيام المجاورة، فلم يجهر بقراءته، على الرغم مما وجده من شوق إلى ذلك، إذ أحس في تلك الركعات نشوة لا يذكر أنّه تذوّق مثلها من قبل.. ولعل ذلك عائد إلى بُعد عهده بصلاة الليل، بل بالصلاة كلها، التي كاد يقطع بها صلته، منذ ساقته الأقدار إلى الاندماج في تلك الجمعية، التي استولت عليه وعلى الكثرة من مواطنين الدمشقيين، الذين كانوا يتلقون علومهم العسكرية في عاصمة الخلافة..