يحكى أن مدخولاً قد زال عقله، وذهب بصره، وفقد سمعه، خرج ذات يوم من داره هائماً على وجهه في متاهات شاسعة لا حدّ لها نهاية، وبقي سائراً على قدميه، شاخصاً بصره، رافعاً عقيرته إلى أن أعياه السير، وأنهكه الضنى فخر صريعاً على وجهه. ولما أفاق من غيبوبته، واستعاد شيئاً من نشاطه وقف على صخرة، وراح يخطب بأعلى صوته آمراً مرة وناهياً أخرى وموجهاً ثالثة. ولما لم يسمع صوتاً يرد عليه، ولم يقم أحد يضع الوثاق في يديه، اعتقد أن الأمر قد صار له، وأن الكل طوع بنانه، وأنه هو الآمر الناهي، الموجه المرشد الذي يستطيع أن يبني ويهدم، ويخطط ويشرع معتمداً على ما بقي في ذهنه من خليط بين أفكار مجنون وأحلام نائم.
ذكرني بهذه القصة أولئك الذين أصموا آذانهم، وأغمضوا أعينهم، وراحوا يصرخون إما في إذاعة أو يقذفون في كتاب بأفكارهم المريضة وآرائهم السخيفة، غير مبالين بما يكون لذلك من نتيجة. ذلك أنهم لا يهتمون بالنتائج بقدر ما يهتمون بقول ما قيل لهم أن يقولوه. أي أنه لا يهمهم إلا أن يضعوا ما حملوا به سفاحاً من أفكار ليست حاجة هذا الشرق هي التي والدتها في أذهانهم، وإنما ولدتها حاجة أنفسهم التي فقدت أصالتها وثقتها بعد أن نفث في روعها أنها لا تستطيع البقاء في الحياة إلا إذا تفاعلت مع العدو، وانصهرت في بوتقته فكرياً، وعقائدياً، واجتماعياً، واقتصادياً، وسياسياً، هذا الاعتقاد الراسخ لدى هؤلاء بعدم القدرة على البقاء في الحياة، والاعتماد على النفس هو الذي حملهم على أن يجعلوا من أنفسهم أبواقاً لأعداء هذه الأمة وعوامل هدم وتخريب لكنها والحمد لله أبواق مبحوحة وعوامل مغلولة ليس نصيبها من الفشل والعجز عن التأثير بأقل من نصيب كل محاولة سبقتها للنيل من هذه الأمة.