وضعت البذرة الأولى للدرس اللغويّ بعامة والنحويّ بخاصة في المدينة - كما تقدم - أيام الصحابة - رضوان الله عليهم - وظهرت بوادر هذا الدرس في الإشارات والتنبيهات والأنظار اللغوية المتفرقة المعزوة لبعض المهتمين بأمر اللغة، فأصبحت المدينة فيما بعد أحد المراكز اللغوية المهمة، فشارك لغويوها ونحاتها في القرنين الأول والثاني في تحديد مفاهيم النحو ووضع أسسه.
وقد وقفنا في الفصل الثالث على جملة من أعلام الدرس اللغويّ في المدينة، ونحاول في هذا الفصل أن نقف على ما يتاح لنا من مظاهر ذلك الدرس في تلك البيئة.
ومع إيماننا بأنه يتعذر الوقوف على حقيقة الحركة اللغوية في المدينة لضياع كثير مما أثر عن علمائها بالإضافة إلى ضياع كل ما ألفوه في تلك الحقبة المتقدمة، للأسباب السالف ذكرها، ولأن النحاة المشهورين الذين عرفناهم في القرنين الثاني والثالث "لا يحفلون بنسبة الآراء النحوية إلى أصحابها في كل موضع، وهذا يجعلك تجزم بأن كثيراً من الآراء النحوية التي يمكن أن تظنها للفراء وسيبويه والكسائي ليست لهم بل نقلوها عن غيرهم، ولكنها في كتبهم مغفلة أو معزوة إلى شيوخهم الأدنين، ولعل في هذا شيئا غير قليل من تراث تلامذة أبي الأسود نقله إليهم الحضرميّ وعيسى وأبو عمرو" ومن تراث نحاة المدينة، وهم أصحاب فضل لا ينكر في وضع نواة النحو، وتأسيس بعض قواعده، والمشاركة في بعض مسائله.
وعلى الرغم من ذلك فإنه من الممكن جمع بعض الشذرات اللغوية المتفرقة مما تجود به بعض المصادر، أو مما يستنبط من قراءات بعضهم وتوجيهاتها.
وقد تبين لنا بعد البحث والتنقيب أن لنحاة المدينة مؤلفات في اللغة والنحو، وأن لهم آراءهم النحوية الخاصة، ومصطلحاتهم التي كانت تدور في بيئتهم، وأن لهم مجالسهم اللغوية الخاصة.