عبرت بالدول ولم أعبر بالشعوب، لأنّ حرية الفرد في شعوبها أمر مستهجن لا قيمة له، فلا سبيل إلى معرفة مقدار تمسك شعوبها بالدين أو عدمه، فلا نستطيع أن نحكم على حكامه فهم يزعمون أنّ الدين (أفيون) الشعوب؛ قالوا:"لأنّ الدين شيء لا تفهمه العامة فهو منحصر في رؤساء الكنائس وهؤلاء الرؤساء يستحوذون على الشعب بالترغيب والترهيب، ويتصرفون فيه وفي رؤسائه وأمرائه وسوقته حسب أهوائهم ويوجهونه إلى أي وجهة شاءوا كما تسوق الرعاة الأغنام".
ولو أنّ هؤلاء الحكام طالبوا بالتحرير من سلطان رجال الكنيسة ليختار الشعب الوجهة التي يريدها في عقيدته ونظامه وحكمه وعلمه ومعيشته وتعليمه وشؤونه الاجتماعية كما فعل الخارجون على الكنيسة البابوية لربما كان قولهم مفهوما؛ ولكنهم يدعون إلى محو سلطان الكنيسة الذي يخوف الناس بعذاب الله ويبشرهم بالسعادة الروحية بعد الموت، ليقيموا بدله سلطاننا ماديا تحت لمعان السيوف والنفي والقتل والتعذيب وكتم الأنفاس وكبت الحريات ومضايقة الناس في أرزاقهم وأعمالهم وتعليمهم ومساكنهم وأطعمتهم وإقامتهم.
والطامة الكبرى أنّهم يفرضون عليهم دينا آخر وعقيدة أخرى لا يقولون لهم أنها جاءت من الله ولا من الرسل ولا من الأنبياء، ولكن من أشخاص مثلهم من أبناء جلدتهم ومن يتجرأ على رفض شيء من تلك العقائد فالويل له ماذا ينتظره من العذاب المهين أو الموت الزؤام فهم ينقلونهم من ضيق إلى أضيق ومن دين غير مفهوم بادعائهم إلى عقائد غير معقولة يجزمون ببطلانه ويكرهونها ولا يجدون عنها محيصا فهم كما قال الشاعر: