للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

شعر المتنبي في ميزان الصاحب بن عبَّاد

بقلم الشيخ محمد المجذوب

المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة

السُّخْر لون من الأدب قديم، رافق الشعر العربي منذ قام على قدميه، ومرده إلى نوع من الاستخفاف لا يجد صاحبه سبيلاً للتعبير عنه إلا بالصور المضحكة، وهو بذلك أشد وقعاً في النفس من الهجاء الصريح القائم على التحقير المباشر. فقد يقذف الشاعر أو الكاتب مهجوه بلاذع الكلام، فينال من نفسه أكثر مما ينال من خصمه، إذ يسجل عليها الانسياق لسلطان من الغضب تضعف إرادته عن تصريفه، ولكنه حين يعمد إلى السخر فإنما يدلل على هدوء في أعصابه، يمكن له من تتبع نقائص الخصم في أناة، توهمك بأنه لا يريد تشفياً ولا انتقاماً، وإنما يريد عرض واقع من حق الناس كلهم أن يشركوه في تعرفه.. ولهذا كان السخر فناً جميلاً يحقق من المتعة للقارئ والأديب ما لا تحققه فنون التعبير الأخرى.

ومع ذلك فللسخر ضروب تتفاوت في ميزان الجمال، تفاوت النفوس الساخرة، وكثير من الأدباء لا يجد القدرة على إحسانه، لأن نفسه من النوع الذي لا يأتلف غير الجد، فإذا راح يؤلف الصورة أضحكك من نفسه أكثر مما يضحكك من خصمه. وإلى جانب هؤلاء آخرون فطروا على هذه الموهبة، فهم لا يجدون نصَباً ولا التواءً في حوك ما يقصدون إليه، فإذا هم يتحفونك بما يهزأ طرباً، وربما لا يعجزون أن يهزوا خصومهم بمثل هذا الطرب.