للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رسائل لم يحملها البريد

للشيخ عبد الرؤوف اللبدي المدرس بالجامعة

أخي الكريم المسجد الحرام:

لست أدري كيف أكتب إليك بعد بلاء حزيران، إن الأسى ليتغشاني من كل جانب، وتفيض به من حولي جبال وأودية، يتحدث الناس أنني لا أزال قائماً على وجه الأرض، آخذاً بأسباب الحياة، فيالله من هؤلاء الناس، ويالله من هذا الحديث! مئذنتي تكاد تخنقها العبرات وهي ترسل كلمات الأذان جشاء تختلج، وجنباتي الفسيحة في سبات عميق قلما تستيقظ منه على ذكر الله، ومنبري يكاد ينقض بخطيبه وهو يستمع إليه يقول، ويقول ثم لا يصدع بالحق، أما محرابي فقابع حزين يتساءل في لهفة وألم: أين القرآن الفجر المشهود!؟.

منذ آماد بعيدة وأنا أشكو إليك فقري في المصلين، وهوان الدين على الناس، وزهدهم في حضور الجماعة، بيد أني كنت أجد شيئاً من عزاء في أوقات مسماة من كل عام، كنت أحس الحياة وأذوق طعم العبادة في شهر رمضان، فالناس يأتون إليّ بقلوب خاشعة ونفوس ضارعة، وجنباتي تفيض بالمصلين كلما نادى المنادي: حي على الصلاة، حي على الصلاة، والواعظون منبثون في أرجاء الفسيحة، يشرحون آيات الله، ويحدّثون بحديث رسول الله، فتنيت إلى الله أنفس كانت ضائعة, وتبسط أيدي كانت مغلولة، وتتواصل أرحام مزقها الحسد، وتتآخى نفوس أفسد ما بينها الهوى، وتبتلّ حلوق كانت ظامئة، وتمتلئ بطون كانت تبيت على الطوى، وتريش أجنحة كانت عاجزة عن الطيران.

ثم يمضي ذلك الشهر المضيء فينساني من كان ذاكراً، وينأى بجانبه من كان حاضراً، ويلم بأرجائي صمت الموتى، وسنة النائمين كان لرمضان وحده إلها يعبد، ولبقية الأشهر آلهة لا تستحق العبادة، لا أدري كيف يفعل هذا كثير من الناس وهم يعلمون أنّ إِلَهَ رمضان هو إله كل شيء، وأن عبادة الله حق في كل زمان ومكان.