للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فأقول إنه الغيب المعلن اسمه المعروف، وليس عن رسمه المجهول، للترغيب في العمل الصالح المؤدى لنعيم ما بعد الموت، وليس الغيب الذي إذا ظهر أحاطته الحواس، على نحو ما أظهره الله في الدنيا، فهذه الأسماء محبوبة عند الإنسان تذكرة بالأطايب التي تهفو إليها نفسه، حيث ذاق لذاتها في الدنيا بحواسه، أما واقعها في الجنة من حجم وطعم، ولون ورائحة ومناظر بهيجة، فغيب غير ما عرف في الدنيا، لا يدرك إلا عند الولوج من باب الجنة، فلا ربط بين طيبات الدنيا وطيبات الآخرة إلا بالأسماء، وأما المسميات فالصورة منقطعة تماما، {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} ، والدنيا كلها أرض وسموات والتبديل شامل لكليهما في الآية، حتى الإنسان سيتبدل إلى كائن يتحمل هيبة الله عندما يتجلى عليه في الجنة، وفي الدنيا خرت الجبال دكا لما تجلى عليها ببعض هيبته {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} ، وما يقال عن الصلة اسميا وانقطاعها حققيا بين طيبي الدنيا والآخرة، يقال عن سيئهما، وليس أسوأ من النار فيهما، لكن نار الدنيا يمكن أن تحرق وأن تنفع، {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً} تخويفا وتفعا، ويمكن أن يتفادى شرها إذا اشتعلت بالابتعاد عنها أو بإطفائها، ولكن نار الآخرة استحال نفعها واستحال إطفاؤها، فالصورة الحرارية بينهما لا تقدر بفروق؛ لهول ما ذكر عنها في الكتاب والسنة من مجرد كلام مرعب لم يلمس في دنيانا واقعه {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ، لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} ، ونار الدنيا قد تبقي وقد تذر، وإنما الذكر الكلامي عنها لترويع العاصي من نار أظهره الله على شيء منها في الدنيا {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} . ولديَّ تأويل من تفسير العقليين والنقليين على السواء؛ فالعقليون يقولون: إنه لو تساوى طيب الدنيا الذي ظهر لنا بطيب الآخرة الذي لم يظهر بعد؛ لما اشتدت الرغبة الدافعة إلى عمل ما يدخل