وتأهب الحجيج القضاعي للسفر إلى مكة فأعدوا الرواحل وتزودوا للرحلة. وحانت ساعات الوداع وشخصت الأبصار إلى حارثة بن شراحيل وأخيه كعب، وفيها دمعات حبسها الإشفاق على الوالد الحزين الذي لا يزال في هم موصول ينفث حزنه المكبوت في قوله:
بكيت على زيد ولم أدر ما فعل
أحيٌّ فيرجى أم أتى دونه الأجل
ويا ليت شعري هل لك الدهر أوبة
فحسبي من الدنيا رجوعك لي بجل
سأعمل نص العيس في الأرض
ولا أسأم التطواف أو تسأم الإبل
ويطرق الركب المودع بالرءوس حتى لا تقع عين حارثة على الدموع المنهمرة فيزداد به الحزن ويبرح به الألم. ويتهامسون بالتحية تعلوها الزفرات ويأخذون طريقهم إلى مكة ينصون عيسهم في الدروب والوهاد. وهم يرددون نشيد الوالد الحزين لعل الريح تحمل صداه إلى مكان زيد. ولكنه يضيع في جوانب الصحراء. ويستمر الركب في إنشاده حتى يصل إلى مكة ويطوف بالبيت ويلتقي بزيد ويسمعه نفثات أبيه ويجيب الغريب النائي بقوله:
أحن إلى أهلي وإن كنت نائيا
بأني قعيد البيت عند المشاعر
فكفوا من الوجد الذي قد شجاكم
ولا تعملوا في الأرض نص الأباعر
فإني بحمد الله في خير أسرة
كرام معد كابرا بعد كابر
ويسأله رهطه عن أمره ويقفون منه على أنه عند محمد صلى الله عليه وسلم ويحدثهم زيد عن مكانته عنده ومنزلته في نفسه ... ويؤوب الركب وهو يطوي الصحراء خفافا تستخفه البشرى وتدفعه إلى الجد في السير. ولعل الوالد الحزين كان يستشرف أخبار الركب على أبواب الدروب ومنافذ الطرق.. ويلتقي الآيب بالمقيم ويخبرونه برؤية زيد وينشدونه حنينه. ولعل حارثة لم يطل به المقام حتى ينتهي الركب من حديثه فيمتطي راحلته ويستأنس بأخيه كعب ويسير إلى غايته يستروح رائحة زيد كلما علا نجدا أو هبط واديا.