كانوا ستين راكباً يقدمهم الثلاثة المعظمون، الذين لا يختلف على تقديمهم اثنان من أهل نجران.. أما العاقب عبد المسيح فهو أمير القوم وذو رأيهم وصاحب مشورتهم، الذي لا يصدرون إلاّ عن رأيه، ثم السيد الأيهم وهو قائد الركب، وإليه تنظيم أمرهم في رحيلهم ونزولهم، ولا تتأخر مرتبة ثالثهم أبي حارثة بن علقمة البكري عن كلا الإثنين، إذ كان أسقفهم الأعلى، الذي إليه ترجع نجران كلها في فقه دينها والفصل في أحكامه، ومن أجل ذلك كان موضع إجلال الجميع، حتى ملوك الروم أنفسهم الذين عرفوا له قدره العلمي، وإخلاصه لمذهب الدولة، فأحاطوا، بضروب الإكرام والإنعام، فلم يردوا عليه طلباً، ولم يرفضوا إليه رغبة.
وكانت وجهتهم يثرب ... لذلك كان معظم الحديث بين هؤلاء الثلاثة حولها، وفي شأن الدعوة التي انتقلت من مكة إليها، ثم ما زالت أخبارها تتناقل على ألسنة الوافدين إلى مكة ويثرب والصادرين عنهما إلى مختلف أنحاء الجزيرة ... ولم يكن دور العاقب والسيد على جلالة قدرهما، يتجاوز ذكر ما بلغهم عن ذلك القرشي، الذي أحدثت دعوته كل هذه الضجة، واجتذبت من سكان البوادي والحواضر كل ذلك الإهتما م.. حتى بلغت أذهان كبار الدواة الرومية، فبعثوا يستفسرون عن محمد ودعوته أحبار نجران، يريدون أن يتحققوا من أمرهما ويحيطوا بواقعهما دون زيادة أو نقصان، وكما هو شأن كل مسيحي تقي في نجران كان على العاقب والسيد أن لا يعقبا بشيء على ما يذكران من أمر هذه المشكلة الجديدة، ثقة منهما بأنها من اختصاص كبار المقدسين من أحبار الكنيسة، الذين أراحوا أتباعهم من أعباء التفكر بكل طاريء من شئون الدين، فليس عليهم إلاّ أن يسمعوا قولهم حتى يسرعوا إلى قبوله، على أنه الحق الذي لا ريب فيه..