تبيَّن ممَّا سبق أنَّ العقليَّة العربيَّة في المدينة في القرن الأول الهجري كانت مهيَّأة تماماً لظهور علم العربية بعامة والنَّحو على وجه الخصوص، وأنَّ هذا العلم ككل قانون تتطلبه الحوادث وتقتضيه الحاجات، ولم يكن قبل الإسلام ما يحمل العقول على التَّفكير فيه.
فمن أنشأ هذا العلم؟
لقد اختلف علماء العربيَّة قديماً وحديثاً في أمر واضع النَّحو العربي، وتضاربت آراؤهم، وتباينت توجيهاتهم، وردّ بعضهم على بعض، فبعضهم يقول: إنّه عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - ويقول بعضهم: إنَّه أبو الأسود الدؤلي، ويراه بعضهم الآخر نصر بن عاصم، في حين يرى فريق منهم أنّه عبد الرَّحمن بن هرمز المدني.
وأنكر بعض الباحثين المعاصرين ذلك كلّه، وذهب إلى أنَّ معرفة واضع النَّحو في العربية يكاد يكون معضلة، وأنَّه غامض في منشئه كل الغموض؛فلا سبيل إلى تحقيقه البتة.
وفي هذا الشَّأن يقول بروكلمان:"يبدو أنَّ أوائل علم اللغة العربية ستبقى دائما محوطة بالغموض والظلام". ويقول: "أمَّا تعيين أوّل من وجه العرب إلى الاشتغال بالبحوث اللُغوية فهذا أمر لا يزال غامضا بعد.
وسبب الغموض عند بعض هؤلاء أنَّه ليس ثمة ما يقطع بالحقيقة في هذا الشأن، لضياع كثير ممَّا أُلّف في المراحل الأولى لنشأة هذا العلم، أو لاضطراب بعض المصادر التَّاريخيَّة الَّتي تعرَّضت لنشأة النَحو العربي، إضافة إلى هيمنة روح التَّشكيك عند بعض المستشرقين في قدرة العرب على ابتداع علم لم يكن لهم سابقة فيه، فانساق أكثر هؤلاء وراء عواطفهم، وزعموا أنّ علوم العربيَّة في نحوها ومعجمها ما هي إلا تقليد ومحاكاة أو ترجمة أجنبية يونانيَّة أو سريانيَّة أو هنديَّة أو فارسيَّة.