وتظل (المدينة الفاضلة) قابعة في زوايا المكتبات, يتراكم عليها غبار الأزمان المتعاقبة, وهي تنظر إلى الفلاسفة الذين رأوها بعين الازدراء؛ لأنهم لم يستطيعوا أن يقيموها على أرض الواقع في عالم الحقيقة وتنظر إلى الناس من حولها نظرة إشفاق ورحمة؛ لأنهم لا يستطيعون بطبيعتهم وجبلتهم أن يتمثلوا الحقائق المجردة, ويتبعوا النظم الأخلاقية ما لم تكن ماثلة أمامهم في رجال يتحلون بها, ويقيمونها في أنفسهم, ثم في مجتمعهم, فإن لم تقم التعاليم والأخلاق في الرجال ظلّت حروفا تسود الكتب, وأشباحا يتصورها الخيال في عالمه, وتستبعدها الحقيقة من عالمها.
ولئن شاركت الفاسفة الأديان في دعوتها إلى الأخلاق, فقد فارقتها, وقصرت عنها, بأن كانت الفلسفة تصوراً لما يجب أن يكون عليه الإنسان, وكان هذا التصور من نتاج الإنسان نفسه, فظلّت نظم الفلسفة خاصة ببعض من يطابق عقله عقل الفيلسوف واضع النظام, وبقي عامة الناس في منأى عن تلك الفلسفة.