بقلم الشيخ: أحمد عبد الرحيم السائح - من علماء الأزهر
هذا الإتجاه الواضح الذي أخذ فيه القرآن الكريم بيد الإنسان، وطاف به في أعماق هذا الكون، هداه إلى أسراره، وأوحى إليه أن يتأمل فيه ويتدبر، ويتعلم وليسخره لمنفعته، ويستخدم عقله في سبيل ذلك إلى حدود لم تحدد.
هذا الإيحاء هو الذي دفع بالمسلمين إلى الخوض في بحار العلوم المختلفة، وأدركوا مبلغ الحاجة إليه في بناء مجتمعاتهم، ودعم سلطانهم، وعرفوا أن العلم: هو الذي يوضح لهم معالم السير على النهج القويم، ويفتح لهم آفاق الحياة والقوة، ويكشف لهم عن أسرار العوالم الكونية ونواميسها، ويقيم لهم وسائل الحياة، والسؤدد ويبني لهم قواعد المجد والعزة.
عرفوا كل هذا، فوجهوا عزائمهم إلى طلب العلوم على اختلاف أنواعها ولم يشغلهم عن طلبها ترف الحضارة، ولا ثنت عزائمهم عنها بأساء الحياة وضراؤها، وبحثوا عنها في آيات الله التشريعية، وآياته الكونية وأقاموا لها في كل قطر إسلامي مناراً عالياً، وحملوا مشاعلها إلى مشارق الأرض ومغاربها، ولم يقفوا بجهودهم عند نتاج عقولهم وأفهامهم بل اتجهوا بها أيضاً إلى علوم السابقين فاستخرجوها من زوايا النسيان والإهمال.
وأخذوا إبريزها بعد أن زادوه نقاء وصفاء، وردوا زائفها بعد أن بينوا زيفه وفساده؛ لأنهم كانوا يطلبون العلوم طلب الناقد البصير.
واكتمل لهم من ملكات العلوم والفنون في جيل واحد، ما لم يكتمل لأمة من الأمم الناهضة، في عدة أجيال وفي ذلك يقول بعض المؤرخين من علماء الغرب:(إن ملكة الفنون لم يتم تكوينها في أمة من الأمم الناهضة إلا في ثلاثة أجيال: جيل التقليد، وجيل الخضرمة، وجيل الاستقلال والاجتهاد، إلا العرب وحدهم، فقد استحكمت لهم ملكة الفنون في الجيل الأول الذي بدأوا فيه بمزاولتها) .