نزل القرآن بين العرب وباللغة العربية الفصحى، وكان العرب عند نزول القرآن مختلفين في عقائدهم وبمعتقداتهم اختلافا كبيرا، فمنهم المشركون عبدة الأصنام، ومنهم من كان يعتنق النصرانية أو اليهودية، ومنهم الأحناف الذين ترجع عقيدتهم إلى ملة سيدنا إبراهيم عليه السلام، ومن هؤلاء وأولئك من كان يتطلع إلى دين جديد، ونبي جديد، ولكنهم لا يدرون من أي قبيلة سيكون ذلك النبي، وبأي دين سيأتي، غير أن رأيا عاما كان منتشرا بينهم بقرب مقدم النبي الذي تحدثت عنه الكتب السماوية وملأ خبره أرض الجزيرة العربية.
ولقد حدثنا القرآن عن هذه الأنماط المختلفة من العرب ذوي العقائد المتباينة وخاطبهم جميعا، وعلى الرغم من وجود هذه المعتقدات والآراء إلا أن التاريخ لم يثبت أن هذه المعتقدات والآراء كانت تقوم على منهج عقلي أو فلسفي واضح، ولم يتح للعرب أن يبلوروا هذه المعتقدات في فلسفة فكرية ذات قواعد واضحة محددة، بل كانت قاعدتهم الفكرية هي {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُون} وهذه القاعدة من شأنها أن تحجر على الفكر النظر والبحث والتأمل، وبالتالي توقف النمو العقلي الذي يعين على الوصول إلى الحقائق المتصلة بالكون والحياة.
ولهذا كانت مهمة القرآن هي العمل على إبطال هذه القاعدة وغرس ما من شأنه أن يدعو إلى استعمال العقل والتدبر والتأمل، حتى تزول تلك الحجب الكثيفة التي تحول بين العقل والرؤيا الصحيحة للأشياء، وليخلق أمة جديدة تعلي من شأن العقل، وتستخدمه في مختلف شئونها، وتفتح أمامه آفاقا غير محدودة لاستكناة حقائق الوجود، وأقام الإسلام منهجه في تحرير العقل والفكر على ثلاث دعائم هامة: