كثيرون الذين كتبوا في ميدان الرحلات فسجلوا مشاهداتهم، وصوروا انطباعاتهم، وقد اشتهر من هؤلاء رحالون من العرب في القديم والحديث، كان لرحلاتهم العالمية أثرها العميق في قلوبهم وعقولهم، وكان لمؤلفاتهم عنها فوائد جليلة لا نزال نقتطفها وننعم بثمراتها. وما أحسبني مغاليا إذا صنفت كتاب (في أفريقية الخضراء) ضمن هذه المؤلفات الدسمة المفيدة.
إن للأدب الخاص بالرحلات عناصر لابد من توفرها في الكتاب، على رأسها دقة الملاحظة، وحرارة الانفعال، وصحة الحكم، وأخيرا براعة التحليل الذي يربط بين الوقائع والدوافع، على أن يسكب ذلك كله في أسلوب عفوي يحمل طابع السهولة والامتناع معا.
وقد توفر للأستاذ محمد العبودي كل هذه العناصر مجتمعة، سواء في كتابه هذا أو فيما سبقه من بحوث ضمها كتاب أو نشرت في مجلة. فهو في كتابه (الأمثال العامية في نجد) لغوي مدقق، وباحث متتبع، يتقصى الأسباب الجامعة بين المثل الدارج وأصله الفصيح، ولا يفوته إدراك الصلة الاجتاعية بين الوسط والكلمة. وفي كتابه المُعَد للطبع (الثقلاء) ظرف وطرافة، الحافز إليها بالدرجة الأولى ملاحظته العميقة للفروق الدقيقة بين أصناف الطبائع.. هذا إلى ما أوتيه من ثقافة أدبية تجعله مرجعا يعاد إليه في ما غمض من أخبار الأدب والأدباء، إلى مطالعات متجددة لا يكاد يند عنها أي جانب من أنباء العصر.
وطبيعي أن مثل هذه المميزات العقلية من شأنها أن تنفخ في مذكراته - عن جولتيه في أفريقية - روحا ترتفع بها عن مستوى الكتابات العادية التي تكتفي بالوقوف عند السطوح.