بينا في مقالنا السابق أن الفقه الإسلامي قد حوى نظاماً متميزاً ومتفرداً في الإثبات، يتسق مع نظامه الشامل العادل. فهو مع تحديده لأدلة إثبات الدعوى- على ما ذهب إليه جمهور الفقهاء- إلا أنه لم يحد من سلطة القاضي في تقدير الأدلة حتى لا يجعل وظيفة القاضي إلية لا أثر لها في الحكم. كما أنه لم يطلق للقاضي الحرية الكاملة في تحديد الأدلة تجنبا لتعسف القضاة في استعمال هذا الحق فيستغلون سلطة وظيفتهم.
وقبل أن نتناوله هذه الأدلة نود أن نشير إلى أن القوانين الوضعية بعد مناقشات وتعديلات قد لجأت إلى تحديد الأدلة في الدعوى المدنية والتجارية، اتفاقاً بذلك مع قول جمهور الفقهاء، إلا أنها قد خالفت الفقهاء في تحديد القيمة لكل دليل من هذه الأدلة، كما سنرى إن شاء الله- أما في الدعوى الجنائية فإن القانونيين يميلون إلى رأى ابن قيم الجوزية الذي يقضي بعدم حصر أدلة الثبوت، ولذلك نجدهم يطلقون للقاضي الحرية الكاملة في الدعوى الجنائية ليستمد إقناعه من أي دليل يعرض عليه.
أما فيما يتعلق بأدلة الإثبات في الفقه الإسلامي، فإننا نجدها قد انقسمت إلى قسمين رئيسيين: قسم اتفق الفقهاء على حجته وقبوله كدليل في الدعوى، يعول عليه القضاة، ويتمسك به الخصوم في إثبات دعواهم، وقسم اختلف الفقهاء في قبوله دليلاً للإثبات. ومنشأ هذا الإختلاف في هذا القسم الأخير هو: إما لعدم قوة الأدلة الدالة على اعتباره، أو للإحتياط الشديد الذي تميزت به بعض المذاهب الإسلامية، فاحتاطت للقضاة حتى لا يكون تعويلهم على أدلة ظنية لا تطمئن إليها النفوس، فتضطرب الأحكام وتختلط الحقوق.
ولنلق الآن نظرة عامة على هذه الأدلة، ولنشير إلى موقف القانونيين في بعض مسائلها.