لا أزال أذكر بشيء كثير من الأسى والألم تلك الأيام الأخيرة من حياة أمك، على الرغم من أن حياتنا معها لم تعرف وثاما وسلاما، ولا أمنا وطمأنينة، لقد عشناها حياة قلق واضطراب، حياة ليل مفزع ونهار مروع، لا أذكر إلا أياما قليلة مرت في حياتنا الطويلة دون أن نشهد غاراتها الخاطفة وهجماتها العاصفة.
ما أنس لا أنس ما حييت تلك اللحظات التي لا أزال حتى اليوم أرتعد فرقا، وأكاد أقع مغشيا علي كلما مرت بي ذكراها وطاف بي خيالها، لقد كنت أرى بعيني الاثنتين أجدادي الأعزاء وأبناء عشيرتي الخلصاء أراهم يوما بعد يوم، وليلة بعد أخرى، أراهم أمام والدتك وهي تلاعبهم لعبة الموت، تضرب الفريسة باليمين تارة وباليسار تارة أخرى، وتعضها عضات هشة، ثم تتخلى عنها قليلا، فتظن الفريسة المسكينة الحياة ممكنة، فيعدو بها حب الحياة، ولكن هيهات هيهات الحياة..
لقد كنت أغمض عيني حين أرى الضحية وقد خارت قواها تتمزق بين المخالب والأنياب ولا أفتحهما إلا على لسان يلعق الدم على أطراف الفم وعلى يدين تمسح بهما ما عسى أن يكون عليه من بقايا، يا لهول تلك اللحظات! ويا لمراراة تلك الذكرى!