على الرغم من كل هذا فلا أزال أذكر أيامها الأخيرة بشيء كثير من الأسى والألم، أيام ذابت عضلاتها المفتولة التي كانت تتموج من تحت شعرها اللماح، أيام أخنت عليها الشيخوخة، فلم تترك لها غير جلد على عظم، لقد ذهبت أيام الشباب، أيام كانت تطوف بأرجاء هذا البيت وهي تحرك ذيلها في كبرياء، وتسير الهويني بخطواتها الخرس، وأصحاب البيت يقدمون إليها طيب الطعام وسائغ الشراب، تسمر معهم ليالي الشتاء حول الموقد، فيمسح الكبار شعرها بالأيدي ويتسابق الصغار في ضمها إلى الصدور، إني لأصدقك الحديث أيها الجار الكريم حين أقول لك: إن الدموع كانت تترقرق في عيني وفي عيون كثير من فيران هذا البيت، حين كنا نرى الصغار يضربونها وقد أثقلتها الشيخوخة، يضربونها بعيدان الخشب وأغصان الشجر ضربا مبرحا يملأ البيت مواءات ألم.
كم مرة رأينا صاحبة هذه الدار تركلها بقدميها، وهي تنظر إليها نظرات ازدراء صائحة في زوجها: إلى متى ستظل هذه القطة العجوز عندنا، وهي لا تستطيع أن ترد عادية الفيران في المطبخ، أو تقضي على الهوام في الحديقة؟! إنك لم تسمع جواب زوجها وهو يجلجل في أرجاء البيت، فيملأ علينا جحورنا رعبا ورهبا، كان يصيح: ماذا أصنع بهذه القطة وقد أعيتني فيها الحيل.. كم مرة قذفت بها وراء السور في المساء فوجدتها مع الصباح في الحديقة.. ألم أضعها في كيس وأذهب بها إلى مكان قصي في أطراف المدينة، فإذا بنا نجدها بعد يومين على الباب تموء.. دعيها، سوف يأكلها الجوع ويحرقها الظمأ ويطويها الموت.
ما أسرع ما ماتت ولكن كما يموت الغرباء المشردون، لم تذرف عليها دمعة، ولم تتلظ لها لوعة، ثم بقيت أنت وإخوتك من بعدها للذل والهوان، والجوع والحرمان، فأخذ الموت يتخطف إخوتك واحدا بعد واحد، وقد لطف الله بك فسلمت، وها أنت ذا لا تكاد تبلغ الكفاف من هذا الفتات المرذول والعظام المعروقة.