بشراك يا صديقي! لقد أحلت على التقاعد، التقاعد الذي كنت أتمناه على الله مذ سنين، مذ أكل جسمي مرض السكر، ولبست عيناي نظارات القراءة، وناءت ساقاي بالوقوف الطويل في غرف التدريس.
جاءني كتاب الإحالة، فوجف القلب لأول وهلة، وجف الحلق بعد القراءة الأولى، واضطربت ساقاي من تحتي فهبطت إلى الأرض أحملها ثقلي وأقول: ويحك يا نفس! ألم يك هذا ما تطلبينه وتواصلين فيه الطلب، وتلحين فيه وتضربين على الإلحاح؟؟! فما عدا مما بدا؟! ما هذا الخفقان المجنون في القلب؟! وما هذه الرعدة المحمومة في الفرائص؟!
الوظيفة التي تقاعدت عنها لم تجيء بالهيل والهيلمان، ولم يكن لها في الناس رهبة ولا سلطان، وما كانت تُمِرّ ولا تحلى لدى كثير من أناسيّ هذا المجتمع.
لم يكن لك من تلك الوظيفة تعظيم جماهير تختالين فيه وتمسين، ولم يكن لك منها نفاق مذبذبين تستنيمين إليه وتستعذبين، ما كان لك من تلك الوظيفة مصاهرات حرص عليها الناس لتقربهم إلى السلطة العليا زلفى، حتى إذا تقاعدت تخلوا عنها وكانوا فيها الزاهدين، فما هذه الغاشية التي تغشاك؟! وما هذا الزلزال الذي يهزّك هزّاً؟! تكلمي، ما بالك صامتة لا تقولين شيئاً ولا تهمسين؟!
أما كنت تتمنين ليلاً ونهاراً، وتضرعين إلى الله سراراً وجهاراً، تسألينه أن يخلصك من حياة الوظيفية والموظفين، وما في تلك الحياة من شوائب النفاق والخداع والكذب والزلفى، وما في تلك الحياة من الحدود والقيود والأنظمة التي تضيق بها الصدور، وترخص فيها الأنفس، ويستذل بها الأحرار؟! فما هذا الخوف الذي تخافينه، وفيم هذا القلق الذي تقلقين؟!