في مدينة جَيّان بالأندلس، ولد الإمام العلامة أبو عبد الله جمال الدين، محمد بن عبد الله ابن محمد بن عبد الله الطائي سنة ثمانٍ وتسعين وخمسمائة من الهجرة (٥٩٨ هـ) ، وفيها تلقى جانبا من دراسته الأولية، ثم هجرها في شبابه المبكر إلى بلاد الشام، وفي طريقه إليها عرَّج على مصر، فأقام بها مدة تحوَّل خلالها من مذهب الإمام مالك إلى مذهب الإمام الشافعي.
ثم ارتحل إلى الأراضي المقدسة؛ رغبةً في الحج، ومنها واصل المسيرة إلى دمشق، وحضر فيها دروساً على بعض علمائها، ثم انتقل إلى حلب، فأطال بها المقام، باحثا، ومدرسا. ومن حلب رحل إلى حَماة، ومنها إلى دمشق، وفي دمشق ألقى عصا التَّسيار، بعد أن لمع نجمه، وارتفع قدره فتصدر للتدريس فيها صابراً على متابعة البحث، محتسباً أجره عند الله، حتى وافاه الأجل المحتوم يوم الأربعاء الثاني عشر من شعبان عام اثنين وسبعين وستمائة للهجرة (٦٧٢ هـ) .
وقد جمع الله لابن مالك من الأسباب ما يؤهله لأن يكون واحد عصره، وقدوةً لمن جاء بعده، فهيأ له البيئة التي تموج بالعلم، وتدفع إليه دفعا، كما منحه العقل المفكر، والذهن المتفتق، والحافظة الواعية، والرغبة المتدفقة في البحث والتقصي.
وكان لكثرة اطلاعه على أشعار القدامى، وسرعة حفظه لما يقع عليه بصره، أو يلتقطه سمعه- أثرٌ واضح في تأجيج الملكة الشعرية؛ فقد كان نظمُ الشعر عليه سهلاً حتى عالجه في أدق مسالكه، وهو نظم العلوم والفنون.