تسألني يا صديقي كيف أمسيت بعد ثلاثة وعشرين عاما من ذاك الزواج.
أمسيت يا صديقي كما أصبحت، أحمد الله على ما أنعم، وأشكر له ما رزق، لا يزال ذاك الزواج ريَّان مونقا مورقا كأشجار الربيع، لم يصبه الجفاف، ولم يدركه الخريف، لم أصر بعد إلى ما كنت تحدس وتقدر، فأرى في بيتي ظلمة المغاور، وأحس له وحشة المقابر، لا يزال بيتي يشرق بالنور، ويفيض بالحياة، ويزين كل جدار فيه. {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}(الروم: من الآية٢١) .
ولا تحسبن أني قد نسيت، فأنا لا أذكر تمام الذكرى ما منحتنيه من نصح، حين أشرت علي أن أستبدل بشجرة السرو شجرة من أشجار العنب، وقلت: هذه ذات أغصان تفيء إلى ظلها وقت الحرور، وذات عناقيد تستمتع بها في مصيف العمر وفي شتاء الحياة، ثم هي زينة لك في حياتك الدنيا، تدوم بها الصحبة وتتوثق الألفة، وتعمق المودة، ويكثر الخير، وتتنوع طعوم الحياة.
ولقد شكرت لك هذا النصح حين ذاك، وقلت لك: أنا يا صديقي في فسحة من الوقت، وليس هناك ما يدعو إلى هذا التعجل، دعني آخذ الأمر بشيء من الأناة، وأعالجه بشيء من التبصر.
وما كان جوابي هذا لينال رضاك، فهززت رأسك هزات ذات معان، ورميت ببصرك إلى الأرض بضع ثوان، ثم رفعته إلي وأنشأت تقول:
لا تركن إلى ما أنت فيه من شباب، ولا يخدعنك ما أنت فيه من نعيم، ولا تقعد الجبن عن لقاء الحياة، فتقعد في هذه الحياة أسيفا حسيرا، ولا تكن من المستقبل في خشية، فالمستقبل بيد الله، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}(هود: من الآية٦) .