للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لقد نسيت يا صديقي كثيرا من أيام حياتي، ولكنني لم أنس ذلك اليوم الذي أبديت فيه ما كنت عنك أخفيه، وجهرت لك بما كنت من قبل قد أسررت، وقلت لك حين عرفت أن لا مناص من القول:

دعني يا صديقي فالخيرة فيما اختاره الله، لا فيما تختاره أنت، أنني راحل في هذه الحياة، وكل شيء من حولي وحولك راحل، فأشجار الزيتون التي تغطي سفوح الجبال، وتفيض بها بطون الأودية، وأشجار البرتقال هذه التي تملأ السهول، ويفيض بها الساحل، وهؤلاء الناس الذين يغدون ويروحون وهم لا يشعرون، هؤلاء وأولئك كلهم راحلون راحلون، وحتى هذه الأرض التي أنت فوق ثراها راحلة سوف أكون أنا يا صديقي في هذه الدنيا عابر سبيل، وفلّ طريق، ونضو سفر، فدعني أعبر فجاجها العميقة، وثنياتها الضيقة، وشعابها الصعاب، دعني أعبرها خفيف الظهر، طلق اليدين، واسع الخطا، ولا ترهقني من أمري عسرا.

دعني يا صديقي من أعنابك وعناقيدك، فأنا لا أحب العناقيد حصرمًا، ولا أحب الأعناب ذوات أكل خمط، ولا أريد أن أزيد غثاء السيل غثاء، وعسى أن يجعل الله فيما تكرهه أنت خيرا كثيرا.

أما أنت يا صديقي فسر على الدرب الذي أحببت، وتزوج من النساء مثنى وثلاث ورباع، واترك من خلفك ذرية مباركة من البنات والبنين والحفدة، تحمل اسمك الكريم، وتحفظ ذكرك الطيب، وتكون شجرة باسقة الفروع، كثيرة الثمر، تنشر من حولك الظل، وتكون لحياتك زينة.

ونم يا صديقي ليلك الهادئ الطويل، تهدهدك الأحلام، وتربتك الأماني، وتطوف بخيالك صور غد باسم مشرق.