لأشد ما يحزنني تباعد الزمن بيننا، فتعيش أنت في القرن الثاني وأعيش أنا في القرن الرابع عشر. كم تمنيت أن أتقدم هذه القرون الطويلة فآخذ النحو كما أخذته أنت مشافهة ومساءلة لا كما أخذته أنا حفظا للمتون، وقراءة في الشروح والحواشي، ولكنها مشيئة الله حالت بيننا وبين هذه الأماني، فعشت أنت في عصر أقبل الناس فيه على النحو وعشت أنا في عصر ولّوا عنه مدبرين.
شتان ما حالي وحالك يا أبا بشر..!! لقد أنفقت عمرك تبني النحو وترفع منه القواعد، وزملاؤك من حولك يشدّون عضدك، ويعقدون على أمرك الخناصر، فاستوى لك بناء يطاول أعنان السماء، ويسدّ وجه الأفق.
أما أنا فأنفق الوقت في إصلاح ألسنة تقول فلا تعرب، وتنطق فلا تبين، وأسمع من هنا وهناك صيحات تنادي بإلغاء هذا النحو الذي أطعمته شبابك الوريق، وأسقيته من حياتك كأسا دهاقا..
نعم ينادون بإلغاء هذا النحو ويزعمون أنه جهدٌ بلا طائل وسرى بلا صبح، ويقولون: إن العصر عصر سرعة، وأهل العلم في حاجة إلى الجهد والوقت، فلماذا نضيّعهما في معرفة المرفوع والمنصوب والمجرور؟ وبيان المعرب والمبني، والفرق بين الحال التمييز، وكم وجهاً من الإعراب يجوز في هذا التركيب؟ وكم وجهاً من الإعراب يجوز في تلك الكلمة؟ يقولون -يا أبا بشر-: لماذا لا تستريح من هذا العناء كله بتسكين أواخر الكلمات؟ حقاً إنه لخبر محزن أسوقه إليك، ولكني لم أقصد الإساءة، وأنت تعلم أنّ مصابنا في هذا سواء..
يزعم هؤلاء المنادون بتسكين أواخر الكلمات أنهم يريدون تيسير هذه اللغة لطالبيها، وكسر أشواكها لجانيها، وتقريب تعليمها إلى الأجانب..!! وتضييق الشقة بين لغة الكتابة ولغة المحادثة, ومسايرة ركب اللغات الحديثة التي لا تعرف الحركات في أواخر الكلمات..