كان (أبو جميل) في الخامسة والستين يوم صدر قرار إحالته على التقاعد. وهي السن التي طالما حجبها عن الناس وعن رؤسائه بوجه خاص، خشية استعجال هذه النتيجة التي ظل خمس سنوات يدافعها بكل ما أوتي من حيلة وما بذل من رجاء.. ولكن لكل شيء نهايته، ولم يكن بد لمثله من أن يصير إلى هذه النهاية يوما ما شاء أو أبى. لذلك كان عليه أن يوطن نفسه لاحتمال هذه الحياة الجديدة، حياة ما بعد الوظيفة، بكل ما فيها من فراغ ووحدة. ولشدة ما فكر في أيامه القابلة هذه حين يجد نفسه خارج العمل فلا يدري كيف يزجي أعباءها، ولا كيف يملأ فراغها!..
ولا غرابة في ذلك فإن امرأ كأبي جميل بسيط طيب القلب، لا حظَّ له في خبرة الحياة خارج نطاق عمله النمطي في ديوان المالية، يتعذر إليه أن يغير بسهولة طريقة حياته التي جثم في قالبها قرابة نصف قرن حتى أصبح كالمنفي عن دنيا الناس، لا يكاد يفهم ما يشغلهم من شئونها. وكان بادي الرأي شديد التعويل على دنانيره المئتين التي استطاع أن يحتفظ بها من بقايا مرتباته خلال هذا الزمن عملا بالمثل الذي يقول:(قرشك الأبيض ليومك الأسود) وقد جاء اليوم الأسود بهذه البطالة التي ترهقه، فجدير به أن يفيد منها باتخاذ عمل يشغل به الفراغ.. على أن (حساب القرايا لا ينطبق على حساب السرايا) فما أن غادر قيود الوظيفة حتى ألفى نفسه عاجزا عن أي تفكير في الموضوع, أشبه بمملوك قضى أيام نشاطه في أغلال الرق، ثم فوجئ بإطلاق حريته على غير إعداد سابق فكانت حريته نفسها أشد الأعباء عليه..