أمعن أهل مكة في اضطهاد المؤمنين، وزادوا في تعذيبهم، وسدوا المسالك في وجوههم، فلم يعد أمامهم سبيل إلى النجاة إلا بترك بلادهم وأموالهم وعزم المسلمون المعذبون على أن يشتروا عقيدتهم بما يملكون من متاع الدنيا، وأن يضحوا في سبيلها بكل شيء، ولو كان ذلك الشيء هو الوطن الغالي على النفوس ولو كان هذا الشيء هو الأهل الذين هم أعز شيء في الدنيا على الإنسان، ذلك لأن الأرض، والناس الذين يعيشون عليها لم تعد وطن المؤمن، ولا سكانها أهله فقد جعل الإسلام معالم جديدة للوطن والأهل، وتركزت تلك المعالم في قلوب المؤمنين.
لقد أصبح وطن المؤمن هو العقيدة التي يؤمن بها، وأصبح أهل المؤمن وإخوانه هم أولئك الذين يعتنقون تلك العقيدة، ويشاركونه سراءه وضراءه، إن عقيدة المؤمن أعز عليه من الأرض والأهل، وما الأرض؟؟ إنه يستطيع أن يجدها في كل مكان يحل فيه، وما الأهل؟ إنه سيجد في إخوانه المسلمين عوضا عمن فارق من الأهل، ولكنه لن يجد عوضا عن عقيدته إذا فقدها.
من أجل هذا ضحى المسلمون بالوطن والأهل والمال والولد فرارا بدينهم وعقيدتهم ولكن إلى أين يتجهون؟ فليذهبوا إلى الحبشة فإن فيها ملكا لا يضام من نزل بجواره وكانت الحبشة هي وجهة القوم، وهناك وجدوا الأمن والسلام، وراحة الجسم وهدوء البال، ولكنهم مع ذلك لم يجدوا بغيتهم، فليست الغاية من الهجرة الخلود إلى الراحة واقتناص فرص الأمن والطمأننية، وإنما هي خطوة إيجابية لنشر الدعوة، وتثبيت العقيدة، وإقامة الدولة التي هي أمل المؤمنين، وليست أرض الحبشة ميدانا لهذا العمل الجليل، لقد خبروها بأنفسهم، وعاشوا فيها بطاقاتهم، فلم يجدوا فيها من الدلائل ما يبشر باستعدادها لتحتضن تلك الدولة، وتمنحها فرص الحياة.