لقد باعد الموت ما بيننا، أمَّا أنا فلا أزال في الأحياء، أدِبُّ فوق الثرى إلى أجل مسمى يعلمه الله، وأمَّا أنت فقد اعتبطت الموت، وارتحل بك إلى الدار الآخرة، تواريت تحت التراب تنتظر يوم الحساب.
كان ذلك في ليلة مكفهرة عابسة في أعجاز الخريف، قد امتلأت آفاقها بالسحب، فلم يطلع لها نجم، ولا أضاء فيها قمر، وكانت الأرض قد صوح نبتها، ومات عودها، وأصبح ما على وجهها هشيماً تذروه الرياح.
كانت السماء تبكي في تلك الليلة، كانت تبكي على الأرض، لتطفئ ظمأها، وتحيي هشيمها، وتكسوها حلة قشيبة موشاة تميس فيها لآذار ونيسان.
وكانت السماء تبكي عليك في تلك الليلة، وأنت من فوق ألواح الخشب على ظهر الشاحنة الكبيرة الصاعد في سفوح وادي الموجب، ذلك الوادي السحيق العميق الذي تزوغ في أحشائه الأبصار.
لقد كان مقعدك إلى جوار السائق دافئاً أميناً، بعيداً عن الخطر والمطر والبرد والعواصف، فلِمَ غادرته لتمطي الأمواج وتكافح الرياح، وتتلقى الماء المنهمر؟! ما الذي كان يدعوك إلى أن تركب هذا المركب الخشن؟! ولِمَ حمَّلت نفسك تلك الصعاب، وأذقتها ذلك العذاب؟!
نعم، لقد كنت أميناً عند الناس وعند الوزارة، فخشيت أن تسّاقط ألواح الخشب في سواد الليل البهيم وأنت لا تدري، فتساقط معها أمانتك التي كنت حريصاً عليها كل الحرص، وفيّاً لها كل الوفاء.
والتَوَت الطريق على الشاحنة الكبيرة، وخرج بها عن الجادة ظلمات الليل، وتتابع الودق، وسوء خلق السائق، فألقت بنفسها وبمن فيها وما عليها على الأرض، كما يلقي المتعب الواهن بنفسه إذا ناء كاهله بما يحمل، ولم تقوَ ساقاه على طول الطريق.