لقد نشأ فخري.. في وسط إسلامي محافظ، وبدأ دروسه الأولى على أيدي الفضلاء من مشايخ دمشق، الذين عليهم قرأ القرآن، وباشر مطالعة الحديث، وتلقى مبادئ الفقه، فلما التحق بالمدارس الرسمية لم يبتعد عن هذا الجو النقي، إذ كانت مناهجها ذات صلة وثيقة بتلك المعاني، واستمر في هذه السبيل حتى انتقل إلى استانبول.. وهناك فقط بدأ يتحلل من تلك الروابط الروحية، إذ وجه نفسه مأخوذاً بصحبة شباب ذوي ثقافة أخرى، يتلقونها في اجتماعاتهم الخاصة، على أيدي رجال عادوا من أوروبة حديثاً، مزودين بمفهومات عن الدولة والقومية والتطور لم يستطع مقاومة إغرائها، فإذا هو ينساق في تيارهم شيئاً فشيئاً، حتى لم يعد يحس بأي قلق إذا هو أخرّ وقت صلاته، أو أغفلها كلياً..
وساقته الذكريات المتفاعلة إلى أمسه البعيد.. إلى أيام استانبول تلك.. وما سبقها.. فإذا هو يستعيد، على غير توقع، بعض ما فقده من ذلك الروح الذي أشرق على قلبه لأول مرة في دمشق، التي يذوب حنيناً إلى لقائها.. والتي كان إلى وقت قريب على مثل اليقين أنه يكدح من أجلها.. من أجل استرداد جلالها، الذي تألقت به تاجاً على مفرق الدنيا أيام معاوية وخلفائه، ثم جاءت الكوارث تضرب في أكنافها، حتى جردتها من عزة السلطان، وجعلتها ذيلاً لغيرها من العواصم..ثم لم تكتفِ حتى أتت على سيادة الجنس العربي كله، إذ انتزعت منه زمام القيادة، لتضعه في أكف الغرباء من هؤلاء الأتراك الذين خرج عليهم مع هؤلاء الخارجين من إخوانه وأبناء جلدته..
وأطرق فخري يتأمل خلال هذه الأحداث، فلا يتمالك أن يتمتم في حيرة لا يستطيع كتمانها: أحقاً نحن في الطريق إلى عزة العرب! ...
وتتفجر التساؤلات الحائرة متتابعة وراء ذلك:
- أليس من سبيل لهذه العزة إلا بالخروج على دولة الخلافة؟..
- والخروج على الخلافة.. أليس خروجاً على الإسلام؟..