وتكاتف الرفيف حتى استحال دويا، وترنحت أفواج الحمائم متهادية بين مختلف الزوايا، ثم جعلت تنتشر على جوانب السطح القبلي المطل على المربعات الأربع، فتستقر هناك، كأنها تنتظر دفعة أخرى من هذه الحبوب، التي لا ينفك أولو القلوب الطيبة يحملونها إليها وفاء لنذر، أو كفارة عن سيئة، أو تقدمة بين يدي نجوى.. حتى تفيض عن حاجتها فتفقد الشهوة إليها، وبخاصة أيام الموسم، عندما تتدفق على المدينة الحبيبة سيول الزوار آتين من مختلف أرجاء العالم، فتتراكم صدقاتهم من هذه الحبوب، حتى لا يجد خَدم المسجد سبيلاً لتفادي ضررها إلا بتعبئتها في الغرارات، ثم نقلها من تلك الأقنية إلى حيث يتم الانتفاع بها.
وحَوَّمت الحمامتان بعض الوقت، حتى وجدتا الظل المناسب في جوار أحد الأضلاع من القبة الخضراء فهبطتا في رفق، وحيتا في أدب بالغ صاحب القبر المطهر، ثم أخذتا في حديث طويل جميل.
قالت (لطيفة) الزائرة ذات الثوب الأبيض كالثلج: هنيئا لك الحياة في هذا الجوار السعيد يا (رضية) .. وتنهدت رضية ذات الثوب الرصاصي الداكن، ثم أجابت: كثيرات من الحمائم المنزلية يرددن مثل هذه التمنيات.. ولا أعلم لذلك سببا معقولا.
_ عجبا.. وأي سبب أكثر معقولية من هذا الجو الذي ميزه الله على سائر أنحاء المدينة بحلول خير خلقه.. ألم تخبريني يا رضية أن الصلاة في هذا المسجد المبارك تعدل ألف صلاة في سواه!..
_ بلى يا لطيفة، وهذا بلاغ عن النبي الكريم، تلقيناه من أفواه العلماء الذين ينشرون هديه من هذا المسجد.. ولكن.
_ ولكن.. ماذا؟..
_ ولكن الصلاة غير الإقامة..
_ أوضحي يا رضية.. فإن في جوابك غموضا.
_ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدد الأفضلية بكون الصلاة في هذا المسجد تعدل ألفا في غيره إلا البيت الحرام الذي تعدل الصلاة فيه مائة ألف.. وإلا المسجد الأقصى الذي تعدل الصلاة فيه خمسمائة في غيره..