* وأعود إلى حانوت والدي كشأني بعد كل عصر لأقرأ عليه ما تلقيته من دروس اليوم في المدرسة التركية، وألتقي الكعاك الكهل في الطريق، وهو يحمل فوق رأسه ذلك الطبق المصنوع من قش الحنطة، وقد نُضدت عليه أطواق الكعك المحمار، وانتشر من خلاله الأريج المحرك للرغبة، وجعلتْ حبوب السمسم تلتمع على جوانبه كالعيون الصغيرة تطل عليك ضاحكة من كل مكان.. وعلى دأب الرجل يعرج على حانوتنا ليضع لي الكعكة التي لابد منها ويُردفُها بالصرة الممتعة التي تحتوي مسحوق السُّماق الشهي، فيأخذ ثمنها القطعة النحاسية الصغيرة، ثم يمضي لغايته دون أن ينبس ببنت شفة، وأمضي أنا في قضم كعكتي في نهم مهذب، ومن ثم أفرغ للتدرب على تحسين الخط بمشاكلة القاعدة التي يكتبها لي والدي برسمه الأنيق، وقلما تتجاوز الأبيات الثلاثة التي تركت طابعها عميقاً في حياتي وجاهدت طويلا للتحرر من إيحائها:
أنست بوحدتي ولزمت بيتي
فطاب الأنسُ لي ونما السرورُ
وأدَّبني الزمان فلا أبالي
هُجرت فلا أزار ولا أزور
ولستُ بسائلٍ ما دمتُ حياً
أسار الجيشُ أم ركب الأميرُ
ويتابع الكعاك مسيرته ويستمر صوته في نغمه المتشابهة:(كعك سخن... سخن يا كعك) .