وما هي إلا ساعة أو بعضها حتى يخفت ذلك الصوت، لأن الكعك كله قد أتت عليه أيدي المشترين حتى لم يبق منه شيء.. ومن ثم تبدأ المرحلة الجديدة من يوميات صاحبه في موعدها، الذي قلما يعدو مطلع الساعة الأخيرة من النهار، وإذا هو مقبل من أعماق الحي الجنوبي المغلق على سكانه من النصارى، وقد سمّر بصره في الأرض كالكلب الذي استحكم فيه السُّعار ففقد خاصة الانتباه، وأخذ طريقه كالسهم الذي لا يلوي على شيء ولا يسلم من إصابته شيء صادفه، إلا أنه يختلف عنه في اضطراب مسيرته، فهو يترنح ذات اليمين وذات الشمال، ويحرك يديه في استرخاء كأنه يدفع عن نفسه شيئا يخشاه... وما هي سوى خطوات حتى يحدق به العفاريت الصغار وهم يهتفون:
السكران.. السكران... الله يلعن السكران.
ولكن الكعاك لا يُغير وجهته ولا يرد على الهتاف بكلمة، بل يستمر في انطلاقته المترنحة، على حين يتنامى موكب الهتافين من حوله، ويأخذ الصياح في التعالي، ثم يقبل الفارغون من هنا وهناك ليزيدوا في كثافة الموكب، ولا يكتفون بالهتاف يزفونه به، بل إن صمته ليغريهم بالمزيد من إيذائه، فهم يرمونه بالحصى، وبالأتربة، وبالأوساخ يجمعونها من قمامة الطريق، ولا يَضنُّ عليه بعضهم بالنعل يقذفه به، وبالبصاق يلطخ به رأسه ووجهه، فلا يملك إلا أن يضاعف من تحركه ابتغاء الخلاص، ولكن أنَّى له الخلاص وقد أحيط به من كل جانب، وما كان له أن يستمر في صمته فإذا هو يعمد إلى الصياح بصوت متشنج لا يفهم منه سوى زعيق الاستغاثة ولا من مغيث.
وهكذا يتواصل خط السير بالمسكين إلى أن يجد نفسه على شاطئ البحر فلا يتمالك أن يقذف فيه بجسده المنهوك، ولكن مشّيعيه يأبون أن يكفوا عنه عبثهم، فإذا هم يرجمونه بالحجارة، ثم لا يدعونه حتى يبعد عن مرمى أيديهم، وتحول بينه وبينهم طلائع العتمة فيفترقون عنه وهم يتصايحون: السكران... السكران... الله يلعن السكران.