للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لقد فقدت الحياة مثلها العالية وغاياتها السامية ونواياها الطيبة، فقدت نفسها المطمئنة وقلبها البريء، فقدت نورا يشع في أحناء الصدر ورجعي تطمئن بها الأفئدة، فقدت كل هذا على الرغم من هذه المظاهر الجذابة التي تبهر الأعين وهذه الدعاوى الخلابة التي تملأ الأسماع.

أرجو ألا تسيء فيما قلته الفهم فتظن أني كرهت الحياة وطبت نفسا بلقائك، لا، لم يبلغ بي الأمر هذا الحد بعد، على الرغم من أني قد سلخت من حياتي نيفا وخمسين عاما، وحاولت مرارا كثيرة أن أقنع نفسي بالإخلاد إلى باطن الأرض بدلا من ظهرها، ولطالما قلت لها: علام التعلق بهذه الحياة، وفيم هذا الحرص الشديد على العيش، وحتى متى هذا السعي الذي لا يكاد يفتر في ليل أو نهار؟!

يكفيك يا نفس ما من فرح وترح، وما قضيت من خير وشر،؟ ام يعد بك قدرة على التزود بالأعمال الصالحة، فقد أفسدت الحياة الحديثة على الصالحين صلاحهم، ملأت عليهم عيونهم وأسماءهم ودخلت عليهم بيوتهم من غير أبوابها بلا استئذان، فما استطاعوا لها منعا وما استطاعوا لها دفعا، وغلبوا على أمرهم فهم يستغفرون الله بكرة وعشيا.

لا، لا أيها الزائر الذي لا مفر منه، لم أبغض حياتي بعد، ولم أطلب نفسا بلقائك، ولا أريد أن أتعجل زيارتك التي لا محيص عنها، إنه ليخيل إلى نفسي - وإن كانت لا تدري ماذا تكسب غدا - إنه ليخيل إليها أنه لا يزال في حياتي بقية أسأل الله أن تكون نافعة صالحة، وليس الإنسان كما يخيل إلى بعضهم زورقا مرجحنا هلك ملاحه فوق غوارب موج أرعن.