لا أريد بهذا القول أن أبرر طول حياتي، ولا أن أقنعك بالتخلي عني إلى حين، فأنا أعلم علم اليقين أن الأعمار لا تطول ولا تقصر بما لدى أصحابها من حجج، ولا تسرع ولا تبطئ بما لدى أصحابها من نفع وضر، وأعلم كذلك أنك لا تسير في هذه الحياة حسب منهج يعرفه العقل، أو طريقة تهواها الأنفس، فلله فيك وفي صرعاك شؤون أغلقت دون فهمها الأبواب، ولله في قضائه وقدره حكم لا يعلمها إلا هو.
على أنني أود أيها الموت أن أصارحك وأقول: إنني رجل ما أكثر ما تتغشاني الأحلام، أحلام اليقظة لا أحلام المنام، ما أكثر ما ألقي بجسمي على الفراش، وأترك خيالي يهيم قريبا مني كالفراش، أو يحلق بعيدا عني كالسحب، أو يطير عاليا عاليا مع مواكب النجوم.
ولأحلام اليقظة عند علماء النفس تفسيرات وتعليلات لا يعنيني ولا يعنيك أن أقصها عليك، وإنما الذي يعنيني أن أقص عليك حلما رأيته ذا علاقة وثيقة بك:
لا أدري متى كان ذلك، أكان ذات صباح أم ذات مساء، وإنما الذي أذكره أنني سمعت مناديا ينادي: من أراد أن يمتد عمره بضعة قرون، وأن تطول حياته مئات السنين، فليختر لنفسه عملا يتقنه وينفع به الناس، لا يقصر فيه ولا يهمل، ولا يخادع فيه ولا يحتال، ومن أراد أن يدنو أجله فلا يزيد على بضع ليال وقليل أيام فليختر لنفسه عملا يتخون فيه حقوق الناس، ويتبع فيه هوى النفس.
وتعالى النداء يدوي في الأرجاء يصخ الآذان في كل ميدان، ويهز النائم واليقظان، وأصبح الناس من ذاك النداء في أمر مريج، قد أصابهم ّذهول وفزع، وأخذتهم حيرة وتردد.
وما كان أشد دهشتي حين رأيت جماعات كثيرة من المدرسين على اختلاف الثقافات والشهادات يقدمون الاستقالات، ثم يتفرقون في البلاد سعيا وراء أعمال أخر هم بها أجدر وأشد لها إتقانا، وهم عليها أقدر وأكثر إحسانا.