ورأيت أطباء الحكومة يوفضون إلى عياداتهم مبكرين، لا يبرحونها وقت الدوام، ولا يغلقونها في وجوه المرضى يكلمون زائريهم بلطف ويسألونهم بعطف، ويفحصونهم بأناة ودقة، ثم هم يقدمون لهم العلاج بلا من ولا ضن، لا يخصون الفقراء بما رخص من الدواء، ولا يدخرون الجيد الغالي لمن يرجى نفعه أو يخشى ضرره.
رأيت مستشفيات متحركة وصيدليات متنقلة، وأطباء يرحلون إلى القرى البعيدة والأماكن النائية، يقضون على الأوبئة، قبل أن تتمكن، ويستأصلون الأمراض قبل أن تعمر وتستوطن.
وفي مساجد كثيرة على شتى الديار واختلاف الأقطار، رأيت المصلين يموج بعضهم في بعض يتلفتون يمنة ويسرة، ويتساءلون في لهفة وحسرة، ما بالك يا منابر الجمعة حزينة لا تخطبين وما بالك يا مجالس الوعظ صامتة لا تعظين؟!
أين أولئك الذين كانوا يفقهوننا في الدين، ويهدوننا الصراط المستقيم، ويأمروننا بالمعروف وينهوننا عن المنكر؟! أتخالينهم حبسوا عنك فغابوا، أم تظنينهم سلكوا طريق السلامة وأغراهم حب الحياة؟!
ورأيت الموظفين يغدون على مكاتبهم مبكرين، ويقبلون على أعمالهم ناشطين ويستقبلون مراجعيهم منجزين، لا يعدونهم مطالا، ولا يقولون لهم قولا غليظا.
رأيت الكتاب والشعراء ورجال الصحافة قد كسروا أقلام النفاق، وأراقوا حبر الكذب، وأخذوا يكتبون صادقين، وينشرون غير منافقين، قد طلعوا على الناس بأفكار ومعارف تثقف وتنفع، وآداب تهذب وترفع، ليس فيها قصص تخدير وإسفاف، ولا مقالات يداف فيها السم الزعاف، ولا دعوات تلبس الحق بالباطل.
ومررت بالكسالى والعاطلين وأحلاس المقاهي والملاهي، وأولئك المترفين الذين يقضون حياتهم سائحين، فإذا هم في حيرة، قد علت وجوههم صفرة، وزاغت منهم الأبصار.