ورأيت المتقين مشفقين من طول الحياة، قد طابت نفوسهم بلقاء الله، يخافون على أنفسهم من هذه الفتن التي تتوالى كقطع الليل، قد رضوا بما كتب الله لهم في هذه الدنيا من حياة قصيرة.
ومررت بالمقابر - وكنت أتوقع أن تكون خالية ليس فيها عين تدمع ولا قلب يجزع - فإذا الجنائز طبقات بعضها فوق بعض، وإذا الحفر قد غصت بالموتى وفاضت بالجثث، فقلت في همس حزين: يا للمساكين! لقد كانوا عن ذاك النداء غافلين، فجاءوك عجالا أيها الموت وهم لا يشعرون.
وإذا قائل يقول:لقد أسمعهم ذلك المنادي، وصلصل في آذانهم ذياك النداء، ولكن غلبت عليهم شقوتهم في الحياة الدنيا، والله أعلم بهم في الآخرة.
- عجبا! من يكون هؤلاء إذن؟!
- هؤلاء نسوة اغتصبن أعمال الرجال، وتركنهم عاطلين ليس لهم مورد رزق وفوق ذلك كانت رواتبهن تذهب ضياعا، لا تسد خلة ولا تدفع عادية، كانت تنفق إسرافا وتبذيرا في أدوات الزينة والتجميل، وفي (موضات) الفساتين والأحذية، ليتها كانت تنفق على أبوين عاجزين أو على صبية صغار، ولكن النسوة اللاتي من هذا القبيل قليل، وما أراه أمام عيني من الموتى كثير!
- مع هؤلاء النسوة رجال وثقت بهم حكوماتهم فوكلت ‘ليهم تصريف أمور الناس والأشراف على مصالح الشعب، فاتخذوا من وظائفهم مكاتب تجارة ومصايد ثروة وسياط إرهاب وتهديد.
- ولكن من تصف قليل، وما أراه كثير
- مع هؤلاء وأولئك أناس ...
وهنا يقرع جرس الباب، فأستيقظ من حلمي أسرع من ذاك القارع، وإذا امرأة تسأل إحسانا، قد حملت على حضينها شبح طفل، وعلى الآخر حملت ظلا لك يا موت!
وحين رأيتها وسمعت صوتها تذكرت ما كنت فيه من حلم وعرفت بعض من كانوا في أولئك الموتى.
كان فيهم أناس يكنزون أموالهم وفيها حق للسائل والمحروم، وكان فيهم تجار يرفعون أسعارهم نهما وظلما فلا يقدر عليها جائع، ولا يستطيعها فقير مضيع.