وقولهم:{بَلَى شَهِدْنَا} أي أنهم أقرُّوا بأن الله ربهم، ومن أخبر بأمر عن نفسه فقد شهد به على نفسه. وقوله:{وَأَشْهَدَهُمْ} يدل على أنه هو الذي جعلهم شاهدين على أنفسهم بأنه ربهم، وهذا الإشهاد مقرون بأخذهم من ظهور آبائهم، وهو أخذ المني من أصلاب الآباء ونزوله في أرحام الأمهات فالمعنى: أُذْكُرْ حين أخذوا من أصلاب الآباء فخلقوا حين ولدوا على الفطرة مُقرِّين بالخالق شاهدين على أنفسهم بأن الله ربهم، فالأخذ يتضمن خلقهم، والإشهاد يتضمن هداه إلى الإقرار بأنه ربهم.
ولهذا صار الإقرار بوجود الله تعالى مما لا يحتاج إلى برهان؛ فإن الفطر الإنسانية السليمة تشهد بضرورة فطرتها وبديهة فكرتها على خالقٍ حكيمٍ، قادرٍ عليمٍ {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض} , {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ: اللَّهُ}(الزخرف: ٨٧) .
ومن غفل عن هذه الفطرة في حال السراء فإنه يلوذ بها في حال الضراء {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ}(الإسراء: ٦٧) . ولهذا لم يأت الأمر التكليفي بوجوب معرفة وجود الله تعالى خلافاً لما يقوله أهل الكلام ومن سلك طريقهم، وإنما جاء الأمر بوجوب عبادته وتوحيده ونفي الشرك كما قال صلى الله عليه وسلم:"أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله". وقال تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} . (محمد: ١٩) . وهذا هو محل النزاع بين الرسل وأممهم كما قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} . (النحل: ٣٦) .