للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دلت الآيات على الوعيد الشديد، والعذاب الأليم، لمن ترك الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قبل فتح مكة وهو قادر عليها، بوسيلة ظاهرة أو خفية، يؤخذ هذا من الآية الأولى صراحة، ومن الآية الثانية دلالة، لأنه قيد المستضعفين الذين عذرهم بالقعود عن الهجرة بأنهم {لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا} (النساء: من الآية٩٨ (وهو شرط في حصول العفو والمغفرة لهم، وإلا لتناولهم الوعيد في الآية قبلها، كما هو ظاهر.

والوعيد على ترك الشيء بالعذاب الشديد فرع عن وجوبه، وتحتم فعله، ومن هنا يثبت أن سلوك الطرق الخفيف إذا تعذرت الطرق الظاهرة أو تعسرت إلى الهجرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة محتومة، وفريضة مكتوبة، وهي حيلة مقصودها نصرة الله ورسوله، وإقامة شعائر دينه، على أتم وجه وأكمله، وتلقى أحكامه، ووسيلتها مشروعة، ومن أمثلتها الفرار من المشركين خفية، أو التظاهر بالكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان حتى يكون حرا في الانتقال من مكان إلى مكان، أو أن يريهم أنه يريد بذهابه إلى المدينة كشف أسرار المؤمنين، والتجسس عليهم، أو أن يوهمهم أنه يريد مقصدا قريبا فإذا أذنوا له لاذ بالفرار إلى المدينة، وما إلى ذلك، وهذه الوسائل واجبة إذا توقفت الهجرة عليها.

وبالتأمل في هذه الحيلة التي دلت الآية على وجوبها - بالطريق السابق - نرى أنه ليس فيها إبطال حق لله أو للعبد، وإنما هي مكيدة ومخادعة لأعداء الله، ويترتب عليها من الفوائد الدينية والدنيوية ما لا يحصى، ويقاس عليها كل حيلة في معناها كالهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام لمثال هذا المقصد، والهجرة من أرض المعاصي والبدع إذا لم تنجح فيهم الموعظة الحسنة إلى أرض تقام فيها السنة، وتحترم فيها شعائر الإسلام.