"وأما تقدم واحد من أهل العصر سائرهم، ففي معنى تقدم واحد من أهل مصر من الأمصار غيره ممن يضمه وإياه ذلك المصر، لا فضل في ذلك بين الأمصار والأعصار، إذا حققت النظر، إذ ليس بأكثر من أنَّ واحدا زاد على جماعة معدودين في نوع من الأنواع، فكان أعلمهم أو أكتبهم أو أشعرهم أو أحذقهم في صنعة، وأبرهم في عمل من الأعمال، وليس ذلك من الإعجاز في شيء..
إنما المعجز ما علم أنه فوق قوى البشر وقدرهم، إن كان من جنس ما يقع التفاضل فيه من جهة القدر، أو في علومهم إن كان من قبيل ما يتفاضل الناس فيه بالعلم والفهم".
ويدعم الجرجاني هذا الرأي بتقديم مثال ملموس من واقع الحياة الأدبية، وهو ما بلغه الجاحظ وأمثاله من مكانة علمية وأدبية، نتيجة لما استقوه من كلام بلغاء العرب الذين تقدموا في الأزمنة.. فيقول:
"وإذا كنا نعلم أن استمداد الجاحظ وأشباه الجاحظ من كلام العرب والبلغاء الذين تقدموا في الأزمنة، وأنهم فجَّروا لهم ينابيع القول فاستقوا، ومثلوا لهم مثلا في البلاغة، فاحتذوا، إذن لم يبلغوا شأو ما بلغوا، ولم يدُرّ لهم من ضروع القول ما درّ، ولو أن طباعا لم تشرب من مائهم، ولم تُغَذ بجناهم، ولم يكن حالهم في الاكتساب منهم، والاستمداد من ثمار قرائحهم، وتشمم الذي فاح من روائحهم. حال النحل التي تغتذي بأريج الأنوار، وطيب الأزهار، وتملأ أجوافها من تلك اللطائف، ثم تمجها أريا وتقذفها مذيا [٢٦]- إذن لكان الجاحظ وغير الجاحظ في عداد عامة زمانهم الذين لم يرووا، ولم يحفظوا، ولم يتتبعوا كلام الأولين من لدن ظَهَر الشعر، وكانت الخطابة إلى وقتهم الذي هم فيه، ولم يعرفوا إلا ما يتكلم به آباؤهم وإخوانهم ومساكنوهم في الدار والمحلة، أو كانوا لا يزيدون عليهم إن زادوا إلا بمقدار معلوم".
"فمن أعظم الجهل وأشد الغباوة أن يجعل تقدم أحدهم لأهل زمانه من باب نقض العادة وأن يُعدّ معدّ المعجز".