وهنا تتضح الفكرة التي تبناها الجرجاني وقدّم لها، وسعى إليها من كل هذا العرض والسَّرْدِ والتحليل، لقد فرق بين النبي ومعجزته، وبين العبقري وما تجود به قريحته من آثار أدبية يتميز بها عن عصره، ويفوق بها أنداده ومعاصريه، فيبدو وكأنه في القمة.. هذه القمة التي حَبَتْ بها القدرة الإلهية الأنبياء والرسل وأيدتهم بها دون سائر الخلق.
وعلى الرغم مما توصل إليه الجرجاني حتى الآن من نتائج.. وما وضح من أفكار إلا أنه يبدو غير مقتنع.. فنراه يفرد فصلا جديدا يلحقه بما فات، يذكر فيه ما دار على ألسنة الناس، وكأنه يعير هذا الموضوع اهتماما كبيرا، ويجعل منه منطلقا لتفنيد مَزَاعِمِهم، وردّ ادعاءاتهم.. فيقول:
"إنا قد علمنا من عادات الناس وطبائعهم أن الواحد منهم تواتيه العبارة، ويطيعه اللفظ في صنف من المعاني، يمتنع عليه مثل تلك العبارة وذا اللفظ في صنف آخر فقد يكون الرجل - كما لا يخفى - في المديح أشعر منه في المراثي.. وأنفذ منه في الحِكَم والآداب، ونراه يستطيع في الأوصاف والتشبيهات ما لا يستطيع مثله في سائر المعاني.. وإذا كان كذلك، فلعل العجز الذي ظهر فيهم عن معارضته القرآن لم يظهر لأنهم لا يستطيعون مثل ذلك النظم، ولكن لأنهم لا يستطيعونه في مثل معاني القرآن".
ويورد الجرجاني شواهد كثيرة من الشعر والنثر تؤيد وجهة نظره، وتوضح هدفه. بعد ذلك يرد ردا حاسما يبطل كل ادعاء، ويضحد كل زعم، فيقول:"وإذا كان الأمر كذلك لم يمتنع أن يكون سبيل لفظ القرآن، ونظمه هذا السبيل، وأن يكون عجزهم عن أن يأتوا بمثله عن طريق العجز".
"واعلم أنهم في هذا كَراَمٍ قد أضل الهدف، وبانٍ قد زال عن القاعدة، وذاك أنه سؤال لا يتجه حتى يقدّر أن التحدي كان إلى أن يعبروا عن معاني القرآن أنفسها وبأعيانها بلفظ يشبه لفظه، ونظم يوازي نظمه، وهذا تقرير باطل.