فإن التحدي كان إلى أن يجيئوا في أي معنى شاءوا من المعاني بنظم يبلغ نظم القرآن في الشرف أو يقرب منه، يدل على ذلك قوله تعالى:
{قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ}[٢٧] أي مثله في النظم، وإذا كان كذلك كان بيّنا أنه بناء على غير أساس، ورمي من غير مرمى، لأنه قياس ما امتنعت فيه المعارض من جهة، وفي شيء مخصوص على ما امتنعت معارضته من الجهات كلها، وفي الأشياء جميعها [٢٨] .
وهكذا وضحت فكرة الجرجاني.. العالم الأديب، وهكذا أيضا وضح مفهومه للإعجاز.. لقد جعل الجرجاني نظم القرآن وجها يعلو على كل الوجوه، وبنى عليه كل آرائه، بل لقد جعله محور تآليفه وتصانيفه التي خصصها لدراسة البلاغة العربية عامة، والبلاغة القرآنية خاصة.
ومن الحق أن نقول إن الجرجاني وقد توفي في القرن الخامس (٤٧١هـ) قد أفاد إفادة كبيرة من كل الآراء التي طرحت على مائدة البحث، خاصة آراء الجاحظ والرماني والباقلاني، درسها واستوعبها، ولكنه تأثر أكثر ما تأثر بالرماني (المتوفى سنة ٣٨٨هـ) في آرائه البلاغية، وإرجاعه أسرار الإعجاز القرآني إلى الوجوه البلاغية.
ومن الحق أيضا أن نقول - إن الجرجاني قد التقى مع الرماني فهما وتحليلا، كما التقيا في المنهج إذ أن منهج كل منهما كان يعتمد على الذوق الفني، والتذوق الأدبي، وكلاهما نظر إلى أسلوب القرآن ووقفا على مواطن الحسن والجمال فيه، ويتضح هذا الأمر من تساؤل الجرجاني.. ماذا أعجز العرب؟ وعن ماذا عجزوا؟ أعن معان من دقة معانيه وحسنها وصحتها في العقول؟ أم عن ألفاظ مثل ألفاظه؟ ثم يجيب على هذا التساؤل بقوله:"أعجزتهم مزايا ظهرت لهم في نظمه، وخصائص صادفوها في سياق لفظه، وبدائع راعتهم من مبادئ آيه ومقاطعها، ومجاري ألفاظه ومواقعها، وفي مضرب كل مثل ومساق كل خبر وصورة، كل عظة وتنبيه وإعلام وترغيب في كل حجة وبرهان وصفة وبيان [٢٩] ".