ولكن الجرجاني أخذ هذا المنهج الذي وضع أسسه الرماني، فتوسع فيه، وربط بين المعاني والألفاظ، مؤكدا على وجوب تلاؤم الألفاظ مع بعضها من حيث جرسها وموسيقاها [٣٠] .
كما أننا لا نستطيع أن ننكر جهد الباقلاني (المتوفى سنة ٤٣١هـ) ومدى تأثر الجرجاني به، فالباقلاني أول من أشار إلى النظم بوصفه أحد وجوه ثلاثة حددها الرجل للإعجاز القرآني، بيد أن هذا الوجه عند الباقلاني لم يكن محدد المعالم، واضح القسمات، إنما الذي وضّحه وأبرز قسماته ومعالمه، وألقى عليها مزيدا من الضوء: الجرجاني.
فلنستمع إلى قوله وهو يوضح مفهومه - بعد أن ردّ على القائلين والزاعمين وفنّد مزاعمهم -: "وإذا امتنع ذلك فيها فلم يبق إلا أن يكون (يقصد الإعجاز) في النظم والتأليف. وكنا قد علمنا أن ليس النظم شيئا غير توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم، وأناّ إن بقينا الدهر نجهد أفكارنا حتى نعلم للكلم المفردة سلكا ينظمها، وجامعا يجمع شملها ويؤلفها، ويجعل بعضها بسبب من بعض، غير توخي معاني النحو وإحكامه فيه، طلبنا ما كل محال دونه [٣١] ".
"فإن قيل: قولك (إلا النظم) يقتضي إخراج ما في القرآن من الاستعارة وضروب المجاز من جملة ما هو به معجز، وذلك ما لا مساغ له..
قيل: ليس الأمر كما ظننت، بل ذلك يقتضي دخول الاستعارة ونظائرها فيما هو به معجز، وذلك لأن هذه المعاني _ التي هي الاستعارة والكناية والتمثيل وسائر ضروب المجاز من بعدها _ من مقتضيات النظم، وعنها يحدث وبها يكون".
وهكذا عمّق الجرجاني مفهومه للنظم، ولم يقف عند حد ما وقف عنده الباقلاني لذلك وضح بين أفكاره هذا الوجه الإعجازي وضوحا جليا، واستحق أن ينسب إليه دون غيره.