ورأيت بعض متعمِّقي هؤلاء في كتابٍ له لا يجوِّز الدُّعاء بهذا، وإنَّما يجوِّزه تلاوةً لا دعاءً. قال: لأنَّ الدُّعاء به يتضمَّن الشكَّ في وقوعه، لأنَّ الداعي بين الخوف والرجاء، والشكُّ في وقوع ذلك شكٌّ في خبر الله تعالى. فانظر إلى ما قاد إنكارُ الأسباب من العظائم، وتحريمِ الدُّعاء بما أثنى الله على عباده وأوليائه بالدُّعاء به وبطلبه. ولم يزل المسلمون من عهد نبيِّهم وإلى الآن يدعون به في مقامات الدُّعاء، وهو من أفضل الدعوات.
وجواب هذا الوهم الباطل أن يقال: بقي قسم ثالث غير ما ذكرتم من القسمين لم تذكروه، وهو الواقع، وهو أن يكون قضى بحصول الشيء عند حصول سببه من التوكُّل والدُّعاء، فنصب الدُّعاء والتوكُّل سببين لحصول المطلوب، وقضى بحصوله إذا فعل العبد سببه، فإذا لم يأت بالسبب امتنع المسبَّب.
وهذا كما قضى بحصول الولد إذا جامع الرجل من يُحبلها، فإذا لم يجامع لم يخلق منه الولد. وقضى بحصول الشِّبع إذا أكل والريِّ إذا شرب، فإذا لم يفعل لم يشبع ولم يَرْوَ. وقضى بحصول الحجِّ والوصول إلى مكة إذا سافر وركب الطريق، فإذا جلس في بيته لم يصل إلى مكة أبدًا. وقضى بدخول الجنَّة إذا أسلم وأتى بالأعمال الصّالحة، فإذا ترك الإسلام لم يدخلها أبدًا. وقضى بإنضاج الطعام بإيقاد النار تحته. وقضى بطلوع الحبوب التي تزرع بشقِّ الأرض وإلقاء البذر فيها، فما لم يأت بذلك لم يحصد (١) إلا الخيبة.