للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وحقيقة الفقر وكماله كما قال بعضهم (١)، وقد سُئل: متى يستحقُّ الفقير اسم الفقر؟ فقال: إذا لم يبقَ عليه بقيّةٌ منه. فقيل له: وكيف ذاك؟ فقال: إذا كان له فليس له، وإذا لم يكن له فهو له (٢).

وهذه من أحسن العبارات عن معنى الفقر الذي يشير إليه القوم. وهو أن يصير كلّه لله، لا يبقى عليه بقيّةٌ من نفسه وحظِّه وهواه. فمتى بقي عليه شيءٌ من أحكام نفسه ففقره مدخولٌ.

ثمّ فسّر ذلك بقوله: إذا كان له فليس له، أي: إذا كان لنفسه فليس لله. وإذا لم يكن لنفسه فهو لله.

فحقيقة الفقر إذًا أن لا تكون لنفسك، ولا يكون (٣) لها منك شيءٌ، بحيث يكون كلُّك لله. وإذا كنتَ لنفسك فثَمَّ ملكٌ واستغناءٌ منافٍ للفقر.

وهذا الفقر الذي يشيرون إليه لا تُنافيه الجِدَة ولا الأملاك، فقد كان رسل الله وأنبياؤه في ذروته مع جِدَتِهم ومُلْكهم، كإبراهيم الخليل عليه السلام كان أبا الضِّيفان، وكانت له الأموال والمواشي. وكذلك كان سليمان وداود، وكذلك كان نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم -، كما قال تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: ٨]. فكانوا أغنياء في فقرهم، فقراء في غناهم.

فالفقر الحقيقيُّ: دوام الافتقار إلى الله تعالى في كلِّ حالٍ، وأن يشهد العبد ــ في كلِّ ذرّةٍ من ذرّاته الظّاهرة والباطنة ــ فاقةً تامّةً إلى الله تعالى من كلِّ


(١) هو ابن الجلا، كما في «الرسالة القشيرية» (ص ٥٧٦).
(٢) الخبر في المصدر السابق، و «تاريخ دمشق» (٣٢/ ٣٩٢).
(٣) ش، د: «ولا يكن».

<<  <  ج: ص:  >  >>