فيه وجوبَ تعلُّقِ المحبّة بالحبيب الأوّل من جميع طرق الأدلَّة النّقليَّة والعقليَّة والذّوقيَّة والفطريَّة، وأنّه لا كمال للإنسان بدون ذلك البتّة، كما أنّه لا كمال لجسمه إلّا بالرُّوح والحياة، ولا لعينه إلّا بالنُّور الباصر، ولا لأذنه إلّا بالسَّمع؛ وأنّ الأمرَ فوقَ ذلك وأعظَم.
فصل
الصِّنف الثاني: القدريّة النفاة الذين يُثبتون نوعًا من الحكمة والتّعليل لا يقوم بالرَّبِّ ولا يرجع إليه، بل يرجع إلى مجرَّد مصلحة المخلوق ومنفعته. فعندهم: أنَّ العبادات إنَّما شُرعت أثمانًا لما يناله العباد من الثَّواب والنَّعيم، وأنّها بمنزلة استيفاء أجرة الأجير.
قالوا: ولهذا يجعلها الله عوضًا كقوله: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[الأعراف: ٤٣]، وقوله:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[النحل: ٣٢]، وقوله تعالى:{هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[النمل: ٩٠]، وقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما يحكي عن ربِّه عزّ وجلّ:"يا عبادي، إنّما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثمّ أوفِّيكم إيّاها"(١)، وقوله تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ}[الزمر: ١٠].
قالوا: وقد سمّاه الله تعالى جزاءً وأجرًا وثوابًا، لأنّه يثوب إلى العامل من عمله، أي يرجع إليه. قالوا: ولولا ارتباطه بالعمل لم يكن لتسميته جزاءً ولا أجرًا ولا ثوابًا معنًى.
(١) جزء من الحديث الطويل الذي أخرجه مسلم (٢٥٧٧) عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه -.