للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأمّا مروءة التّرك: فكترك الخصام والمعاتبة والمطالبة والمماراة، والإغضاء عن عيبِ ما تأخذه من حقِّك، وترك الاستقصاء في طلبه، والتّغافل عن عَثَرات النّاس، وإشعارهم أنّك لا تعلم لأحدٍ منهم عثرةً، والتّوقير للكبير، وحفظ حرمة النّظير، ورعاية أدب الصّغير. وهي على ثلاث درجاتٍ:

الدّرجة الأولى: مروءة المرء مع نفسه، وهي أن يَحمِلَها سِرًّا على مراعاةِ ما يُجمِّل ويَزِين، وتَرْكِ ما يُدنِّس ويَشِين، ليصير لها ملكة في العلانية. فمن اعتادَ شيئًا في سرِّه وخلوته ملكه في علانيته وجهره، فلا يكشف عورته في الخلوة، ولا يتجشَّأ (١) بصوتٍ مزعجٍ ما وجد إلى خلافه سبيلًا، ولا يُخرِج الرِّيح بصوتٍ وهو يقدر على خلافه، ولا يَجْشَع ويَنْهَم (٢) عند أكله وحده.

وبالجملة، فلا يفعل خاليًا ما يستحيي من فعله في الملأ، إلّا ما لا يحظره (٣) الشّرع والعقل، ولا يكون إلّا في الخلوة، كالجماع والتّخلِّي ونحو ذلك.

الدّرجة الثّانية: المروءة مع الخَلْق، بأن يستعمل معهم شروط الأدب والحياء والخُلق الجميل، ولا يُظهِر لهم ما (٤) يكرهه هو من غيره، وليتّخذ النّاسَ مرآةً لنفسه، فكلُّ ما كرِهه ونَفَر عنه من قولٍ أو فعلٍ أو خُلقٍ فلْيجتنبه، وما أحبّه من ذلك واستحسنه فليفعله.

وصاحب هذه البصيرة ينتفع بكلِّ من خالطَه وصحِبَه من كاملٍ وناقصٍ، وسيِّئ الخلق وحسَنِه، وعديمِ المروءة وغزيرِها.


(١) في النسخ: «يتجشى». والفعل مهموز اللام.
(٢) الجشَع: شدة الحرص، والنَّهَم: الإفراط في الشهوة.
(٣) في الأصول: «لا يحضره» على عادة النساخ في الخلط بين الظاء والضاد.
(٤) ش، د: «بما».

<<  <  ج: ص:  >  >>