للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهذا المعنى الثّاني وإن كان حقًّا لكن ليس من شرائط التّوبة ولا أركانها، ولا له تعلُّقٌ بها؛ فإنّه لو لم يُقِمْ أعذارَهم في إساءتهم إليه لما نقَصَ ذلك شيئًا من توبته. فما أراد إلّا المعنى الأوّل، وقد عرفتَ ما فيه.

ولا ريب أنّ صاحب "المنازل" إنّما أراد أن يعذِرَهم بالقدر، ويقيمَ عليهم حكمَ الأمر: فينظرَ بعين القدَر ويعذِرَهم بها، وينظرَ بعين الأمر ويحملَهم عليها ويأخذهم بموجَبها؛ فلا يحجبه مطالعةُ الأمر عن القدَر، ولا ملاحظةُ القدَر عن الأمر.

فهذا وإن كان حقًّا لا بدَّ منه، فلا وجهَ لعذرهم. وليس عذرُهم من التَّوبة في شيءٍ البتّةَ. ولو كان صحيحًا ــ فضلًا عن كونه باطلًا ــ فلا هم معذورون، ولا طلبُ عذرهم من حقائق التّوبة. بل التَّحقيقُ أنَّ الغيرةَ لله والغضبَ له من حقائق التّوبة. فتعطيلُ عذر الخليقة في مخالفة الأمر والنّهي وشدّة الغضب: هو من علامة تعظيم الحرمة، وذلك بأن يكون من حقائق التّوبة أولى من عذر مخالفة الأمر والنّهي. ولا سيّما يدخلُ في هذا عذرُ عُبَّادِ الصُّلبان (١) والأوثان وقَتَلةِ الأنبياء، وفرعونَ وهامانَ، ونمرودَ بن كنعان، وأبي جهلٍ (٢) وأصحابه، وإبليسَ وجنودِه، وكلِّ كافرٍ وظالمٍ ومتعدٍّ حدودَ الله ومنتهكٍ محارمَ الله؛ فإنَّهم كلَّهم تحت القدر، وهم من الخليقة، أفيكون عذرُ هؤلاء من حقيقة التّوبة!

فهذا ممّا أوجبه السَّيرُ على طريق الفناء في توحيد الرُّبوبيّة، وجعلِه الغايةَ


(١) ع: "الأصنام".
(٢) ج، م، ش، ع: "وأبو جهل"، وكذا كان في ق، ل ثم أصلح.

<<  <  ج: ص:  >  >>