للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالكمال أن يشير إليه به عنه. فتخليص الإشارة إليه هو حقيقة الإخلاص، وتخليص الإشارة به هو حقيقة الصدق، وتخليص الإشارة عنه هو حقيقة المتابعة، وذلك هو محض الصِّدِّيقيّة، فمتى اجتمعت هذه الثّلاثة في العبد فقد خُلِعَت عليه الصِّدِّيقيّة، فما كلُّ من أشار إلى الله أشار به، ولا كلُّ من أشار به أشار عنه. والرُّسل ــ صلوات الله وسلامه عليهم ــ هم الذين كمَّلوا المراتب الثلاثة، فخلصت إشارتهم إلى الله وبه وعنه من كلِّ شائبةٍ، ثمّ الأمثل فالأمثل على منهاجهم.

وما أكثرَ ما تشتبه الإشارة إلى الله وبه بالإشارة إلى النّفس والإشارة بها، فيشير بنفسه إلى نفسه ظانًّا أنّ إشارته بالله وإلى الله، ولا يميِّز بين هذا وهذا إلّا خواصُّ العارفين، الفقهاء في معرفة الطّريق والمقصود. وهاهنا انقطع من انقطع، واتَّصل من اتَّصل. ولا إله إلّا الله! كم مَن (١) تنوَّعَ في الإشارة، وبالغ ودقَّق وحقَّق، ولم تَعْدُ إشارتُه نفسَه وهو لا يعلم، أشار بنفسه وهو يظنُّ أنّه أشار بربِّه، وإنّ فَلَتاتِ لسانه ورائحة كلامه لتنادي عليه: أنا، وعنِّي.

فإذا خلصت الإشارة ــ بالله، وإلى الله، وعن الله ــ من جميع الشوائب؛ كانت متّصلةً بالله، خالصةً له، مقبولةً لديه، راضيًا بها. وعلى هذا كان حرصُ السابقين الأوّلين، لا على كثرة العمل، ولا على تدقيق الإشارة، كما قال بعض الصّحابة: لو أعلم أنّ الله قبِلَ منِّي عملًا واحدًا لم يكن غائبٌ أحبّ إليّ من الموت (٢). وليس هذا على معنى أنّ أعماله كانت لغير الله تعالى، أو على


(١) ت: «ممن».
(٢) رواه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (٣١/ ١٤٦) عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -. وانظر: «صفة الصفوة» (١/ ٥٧٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>