غير سنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فشأن القوم كان أجلَّ من ذلك، ولكن على تخليص الأعمال من شوائب النُّفوس ومشاركاتِ الحظوظ، فكانوا يخافون ــ لكمال علمهم بالله وحقوقه عليهم ــ أنّ أعمالهم لم تخلص من شوائب حظوظهم ومشاركات نفوسهم، بحيث تكون متمحِّضةً لله وبالله، ومأخوذةً عن الله، فمن وصلَ له عملٌ واحدٌ على هذا الوجه وصل إلى الله، والله تعالى شكورٌ، إذا رضي من العبد عملًا من أعماله نجَّاه، وأسعده به، وثمَّره له، وبارك له فيه، وأوصله به إليه، وأدخله به عليه، ولم يقطعه به عنه.
فما أكثرَ المنقطعين بالإشارة عن المشار إليه، وبالعبادة عن المعبود، وبالمعرفة عن المعروف! فتكون الإشارات والمعارف قبلةَ قلبه، وغايةَ قصده، فيتغذّى بها، ويجد من الأنس بها والذّوق والوجد ما يسكن قلبه إليه، ويطمئنُّ به، ويظنُّ أنّه الغاية المطلوبة، فيصير قلبه محبوسًا عن ربِّه وهو لا يشعر، وتصير نفسه راتعةً في رياض العلوم والمعارف واجدةً لها، وهو يظنُّ أنّه قد وصل واتَّصل، وعلى منزلة الوجود حصل، فهو دقيق الإشارة، لطيف العبارة، فقيهٌ في مسائل السُّلوك، وبينه وبين الله حجابٌ لم ينكشف عنه. وإنّما يرتفع هذا الحجاب بحال التجريد والتفريد، لا بمجرَّد علم ذلك؛ فبتفريدِ المعبود المطلوب المقصود عن غيره، وبتجريدِ القصد والطّلب، والإرادة والمحبّة، والخوف والرّجاء، والإنابة والتّوكُّل، واللّجأ له عن الحظوظ وإرادات النفس= ينكشف عن القلب حجابُه، ويزول عنه ظلامه، ويطلع فيه فجر التوحيد، وتَبزُغ فيه شمسُ اليقين، وتستبين له الطريقُ الغرَّاء، والمحجَّةُ البيضاء التي ليلها كنهارها.