التي لا يَطلب مَن قامت به شاهدًا عليها من سوى أنفسها.
ولعمر اللهِ إنَّ هذه درجةٌ من المعرفة مُنيفة، ورتبةٌ شريفة، تنقطع دونها أعناق مطايا السَّائرين، فلذلك لا يوصل إليها بالاستدلال، ولا يدلُّ عليها شاهدٌ، ولا تستحقُّها وسيلة، والأعمالُ والأحوال والمقامات كلُّها وسائل، وهي لا تستحقُّ هذه الدرجة من المعرفة، وإنَّما هي فضلُ مَن الفضلُ كلُّه بيده، وهو ذو الفضل العظيم. وكون الوسائل المذكورة لا تستحقُّها لا يمنع من القيام بها على أتمِّ الوجوه، وبذلِ الجهد فيها، ومع ذلك فلا تستحقُّها الوسائل.
قوله:(وهي على ثلاثة أركانٍ: مشاهدة القرب، والصُّعود عن العلم، ومطالعة الجمع)، إنَّما كانت هذه الثلاثة أركانًا لها لأنَّ صاحب هذه المعرفة قد وصل من القرب إلى مقامٍ يليق به بحسب معرفته، فكلَّما كانت معرفته أتمَّ كان قربه أتمَّ، فإنَّ شهود الوسائط والوسائل حجابٌ على (١) عين القرب، وإلغاؤها وجحودها حجابٌ على أصل الإيمان.
وأمَّا (صعوده عن العلم)، فليس المراد به صعوده عن أحكامه، فإنَّ ذلك سقوطٌ ونزولٌ إلى الحضيض الأدنى، لا صعودٌ إلى المطلب الأعلى، وإنَّما المراد: أنَّه يصعد بأحكام العلم عن الوقوف معه وتوسيطِه بينه وبين المطلوب، فإنَّ الوسائط قد طُوي بساطها في هذا الشُّهود والعرفان، أعني: بساطَ الوقوف معها والنظر إليها، فيدرك مشهوده ومعروفه به سبحانه، لا بالعلم والخبر، بل بالمشاهدة والعيان، وإن كان لم يصل إلى ذلك إلَّا بالعلم